التفاوض مع اسرائيل : هل المشكلة في التفاوض معها ام في من سيتفاوض معها؟

كاتب
مشكلة التفاوض مع اسرائيل بالنسبة لأعدائها وخاصة في “محور الممانعة”، تبدو لي ذهنية- نفسية، او ايديولوجية، قبل أن تكون سياسية. فكيف تتفاوض مع كيان لا تعترف به؟ او كيف تتفاوض مع عدو لا يصح الا قتله، او سجنه في أفضل الحالات؟
في الممارسة العملية جرى تجاوز هذه العقبة الايديولوجية، من خلال مفاوضات الترسيم البحري التي وافق عليها “حزب الله” في حينه. وقد دلّت هذه المفاوضات انه يجري التضحية بالإيديولوجيا عندما يكون المقابل المزيد من النفوذ والسلطة. فصحيح ان ترسيم الحدود البحرية أدى إلى خسارة لبنان جزءا من ثروته المائية، غير أن “حزب الله” ومعه حليفيه، حركة امل والعهد العوني، كانوا يعوّلون على الثروة المائية كسند اقتصادي-مالي يدعم استمرارهم في الهيمنة السياسية على نظام متهالك اقتصادياً ومالياً.
مع ذلك حصل ارتباك على مستوى السلطة السياسية الجديدة عندما صرّح الرئيس عون بضرورة التفاوض مع اسرائيل نتيجة الضغوطات الاميركية. وقد عاود رئيس الجمهورية تأكيده على خيار التفاوض، في تصريح جديد ضمّنه تبريرات سياسية لهذا الخيار، وكرد ضمني ربما على التشكيك في وطنية موقفه: “ليس أمام لبنان إلا خيار التفاوض، ففي السياسة هناك ثلاث أدوات للعمل وهي الدبلوماسية والاقتصادية والحربية”. وقال: “عندما لا تؤدي بنا الحرب إلى أي نتيجة، ما العمل؟ فنهاية كل حرب في مختلف دول العالم كانت التفاوض، والتفاوض لا يكون مع صديق أو حليف بل مع عدو”.
“ليس أمام لبنان إلا خيار التفاوض”: بمعنى آخر أكثر وضوحاً، ان التفاوض مع اسرائيل ليس خياراً بل عملا لا بديل عنه في ظل الواقع الحالي، الذي لم تنجح فيه أدوات العمل الثلاث التي ذكرها الرئيس، اي الدبلوماسية والاقتصادية والحربية.
لافت حرص الرئيس على التأكيد ان “التفاوض لا يكون مع صديق أو حليف بل مع عدو”. وهذا صحيح، ذلك ان لا حاجة للتفاوض ان لم يكن هناك خلاف او نزاع او حرب مع الطرف الآخر. لكن الصحيح أيضاً، كما يُستدل من تصريح الرئيس، وعلى عكس ايديولوجيا الممانعة، انه يمكن التعايش سلمياً مع العدو، وليس المطلوب القضاء عليه بالضرورة. دون ان يستوجب ذلك، حكماً، تطبيع العلاقات معه.
لكن المشكلة المطروحة عملياً هي على مستوى آخر: فهل ستكون المفاوضة مع العدو مباشرة ام غير مباشرة؟ هنا نلمس مهزلة موقف “حزب الله” وحلفائه في “محور الممانعة”. فبالنسبة لهم المفاوضة المباشرة مرفوضة فيما المفاوضة غير المباشرة مقبولة!
لا نستطيع أن نفهم حقيقة هذا الموقف إلا في سياقه التاريخي. النظام الأسدي كان يمنع على لبنان التفاوض مع اسرائيل مباشرة بحجة “وحدة المسار والمصير”، التي كانت تعطي النظام السوري في حينه، القدرة على التفاوض بإسم لبنان ونيابة عنه. وإيران اليوم، وبحجة “وحدة الساحات” لا تحبّذ ان يتفاوض لبنان مع اسرائيل إلا من خلالها، فتسمح له بالمفاوضة، لكن غير المباشرة.
ذلك ان المفاوضة غير المباشرة تعني عمليا شيئاً واحداً لا غير: مفاوضة عن طريق اميركا. وإذ نعلم ان محور الممانعة يعتبر اميركا شريكا كاملا لإسرائيل في عدوانها، نتساءل لماذا يفضّل في هذه الحالة المفاوضة غير المباشرة من خلالها؟ لأنه ببساطة، اميركا هي في مفاوضة دائمة مع ايران، وهكذا يمكن ربط مسارَي التفاوض، مما يعطي إيران القدرة على التدخل في مفاوضات لبنان.
في هذه المفاضلة بين المفاوضة المباشرة والمفاوضة غير المباشرة مع اسرائيل، السؤال الأهم هو: أيهما أفضل للبنان من حيث النتيجة المتوقعة للمفاوضة؟ افترض من جهتي ان المفاوضة المباشرة يمكن ان تعطي نتائج أفضل، لسببين: اولا لأنها تسمح للبنان بأن يبدأ بطرح مطالبه بصيغتها القصوى قبل أن يتدخل الوسيط الأميركي ليطالبه بتقديم تنازلات، بدل أن يكون التدخل الأميركي منذ البداية في المفاوضة غير المباشرة، وهو وسيط منحاز الى اسرائيل، فيضطر المفاوض اللبناني الى التخفيض من سقف مطالبه مسبقاً، ليجبره المفاوض الإسرائيلي على تخفيضها أكثر لاحقاً؛ ثانياً لأن المفاوضة المباشرة، وعلى عكس ما يروّج محور الممانعة، هي شكل من أشكال المقاومة السيكولوجية، اذ يواجه المفاوض اللبناني عدوه الإسرائيلي ويطالبه بالانسحاب وجهاً لوجه، مؤكدا على حقوقه مباشرة وبدون التلطي وراء الوسيط الأميركي.
يبقى السؤال من سيفاوض بإسم لبنان؟ المفاوضة المباشرة، من قبل ممثلين عن السلطة التنفيذية، وهي المخوّلة دستورياً بإداء هذه المهمة، تختصر مسالك التفاوض، ولا تغرق في التجاذب بين أركان السلطة التنفيذية والتشريعية، كما يمكن ان يحصل أكثر في حال التفاوض غير المباشر، او عن طريق ممثلين عسكريين، لا سلطة تقريرية لهم، ويحتاجون للعودة دائما الى مرجعيتهم السياسية.
إشكالية من سيفاوض بإسم لبنان، استبق بروزها رئيس الجمهورية، عندما أنهى تصريحه اعلاه بالقول:” لا أعمل في السياسة بل أنا رجل دولة، والبعض يعتبر لبنان ملكاً له فيما أعتبر نفسي ملكاً للبنان”. مسألة التفاوض مع اسرائيل لا يمكن فصلها عن مسار بناء الدولة، المخوّلة وحدها بتمثيل لبنان، بحسب القواعد التي ينص عليها الدستور. وهي مناسبة ليؤكد لبنان على استقلاليته ككيان عن من استتبعه في السابق، وعلى حقه في قيادة مفاوضاته بحرية مع الدول الإخرى، الصديقة او العدوة. هذه الاستقلالية وهذه الحرية، هما أكثر ما يحتاجه لبنان في مفاوضات غير متكافئة، في ظروف نتائج هزيمة وطنية تسبب بها “حزب الله” في حربه مع اسرائيل.