هل عرفتَ الآن لماذا أدعو إلى تحييد لبنان؟

في ما يأتي، مقالٌ عن كيفيّة انضمام المرء “أو البلاد” إلى نظام اللّانهاية.

عندما الغابةُ تُكالمكَ، وتُكالمها، أو الشجرة، والوردة، والعشبة، واللوحة، والموسيقى، والأغنية، وعندما تنظر إليكَ، وتحدّق، ولا تشيح بروحها عنكَ، فآنذاك يستولي أحدكما على الآخر بوئامٍ كلّيّ، فتدركُ آنئذٍ أنّكَ شخصٌ معنيٌّ باللّانهاية.

الحالة نفسها تملأ كيانكَ، عندما يكلّمكَ الكتاب، وتُكالمه، والشعر، وعندما ذلك الطفل المولود للتوّ ينظر إليكَ، ولا يشيح، وكوبر عندما يتضرّع بعينيه، ولا يغمض، بل يتوسّل، وتلك المرأة عندما تحضر فتحفر فلا تغادر (وإنْ غادرتْ)، فآنذاك لا تعود معنيًّا بفساد الأرض، إنّما عابرًا إلى نظام اللّانهاية.

ما تعيشه يُملى عليكَ. ما تكتبه يُملى بالطريقة نفسها. ليس ذاك قَدَرًا، ولا هذا نبوّةً. إنّما “مصادفة موضوعيّة”، على طريقة الشعراء السورياليّين.

أنْ يكون المرء على هذه الكينونة، لشقاءٌ عظيمٌ للغاية، إذ ينبغي له أنْ يتعايش مع وقيعة الحياة، وهو مُستدعى في الآن نفسه، لينضمّ إلى نظام اللّانهاية.

هذا، على مشقّته، يمثّل إقامةً عضويّةً في الطفولة، في الموهبة، والحبّ، والخيال، والحلم، واللّامعرفة، التي هي المعرفة الكليانيّة، بحيث ينتظم المرء في اللغة الشعريّة، في جوهر اللغة، واحتمالاتها اللّامحدودة واللّامحتملة. وهي الخفّة على قول كونديرا، ونظام اللّانهاية على قول مالكولم دو شازال، الذي أغرمتُ بشعره، بعدما عرّفني إليه عبد القادر الجنّابي، فترجمتُ له شذرات من “الحياة المفلترة” la vie filtree ومن “حسّ تشكيليّ” sens plastique عندما كنتُ في الريعان، وها هو يستفيق من نومه ليدقّ على باب قلبي، ويعلمني بصدور ديوانه “الكلمة” La Parole الذي استيقظ من سباتٍ عظيم، وكان صدر بطبعةٍ محلّيّةٍ محدودة للغاية، العام 1955، لدى service printing في مسقطه بجزيرة موريشيوس.

أعود إلى مكتبتي لأتفقّد هذَين الكتابَين الأثيرَين، موقنًا أنّ جوهر الحياة يقيم خلف الأشياء اليوميّة، حيث بُعدُ الحياة الخفيّ. وهذا، يا للمفارقة، يمثّل عنوانًا باهرًا لأحد كتب مالكولم،la vie derriere les choses.

ثمّ، مرغمًا يواصل المرء حياة الفساد اليوميّة، التي تجتاح جوهر الوجود، وتغتال الغابة، والشجرة، والوردة، والعشبة، والموسيقى، والأغنية، والفنّ، والطفولة، والشعر، والحبّ، والحرّيّة، ها هنا، وفي العالم.

أليس لهذا السبب، أدعو، في هذه الغمرة، إلى تحييد لبنان، بوضع اليد الأمميّة عليه، كمطلبٍ فاتيكانيّ، من دون أن يكون ذلك وصايةً، أو انتدابًا، أو احتلالًا، أو فصلًا سابعًا، بهدف “تحريره” من وقيعة الحياة الفاسدة، ومن المطامع والشرور والصفقات والخرائط ومواقع النفوذ الإقليميّة والدوليّة؟

أليس لهذا السبب، أدعو، بالشراسة الطفوليّة والشعريّة نفسها، إلى رفع أيدي العصابة (العصابات) اللبنانيّة، السياسيّة الماليّة الطائفيّة المذهبيّة الداعرة، عن لبنان، إدارته، ومصيره، ليتمكّن من الإقامة في نظام اللّانهاية، نظام الطفولة، والحبّ، والطبيعة، والشعر، والحرّيّة؟!

وعندما أدعو إلى هذا التحييد (المستحيل ربّما) فإنّما لـ”خلق” صيغةٍ كيانيّة، ذات بعد دستوريّ – دولتيّ، تكون جسرًا يعبره هذا اللبنان إلى “نظام اللّانهاية”.

في هذا المعنى، ليس لي، ولا لفكرة “التحييد” هذه، زعم السياسة التي يتعامل بها زعران الأرض، فأنا، والقول لمالكولم دو شازال، “مجرّد طفل، مجرد موثّق بسيط، لا يفسّر، بل يصف. لستُ سوى سينماتوغراف اللامرئيّ”.

هذا اللّامرئيّ هو الطفولة، بل هو نظام اللّانهائيّ، وهو لبنان محيَّدًا، على رغم صغائر أهله، وشرّ العالم!

فعندما أدعو إلى تحييد لبنان، فإنما لأدرجه في نظام اللّانهاية.

فهل عرفتَ الآن قصدي من هذه الدعوة، يا صديقي الأسقف الرومانيّ لاوون 14؟

اخترنا لك