الذكاء الإنساني، الذكاء الإصطناعي وبينهما غباء السوق

بقلم غسان صليبي

ربما كان اعتبار الذكاء الانساني
إحدى القيم العليا في المجتمع وعبر التاريخ
هو نتيجة اعتقاد الانسان انه يحتكر الذكاء
بالمقارنة مع الحيوان والنبات.

ففي مجال العاطفة مثلاً
قد تتفوق بعض الحيوانات على الإنسان
في سلوكها الحنون،
فيما يتخطاها هو بأشواط
في سلوكه العنيف والعدواني.

ما الذي حصل للإنسان
حتى جرى التفريط بهذه القيمة العليا
التي هي الذكاء الإنساني
لصالح الذكاء الاصطناعي،
الذي ينقل القيمة من الإنسان إلى الآلة
حتى ولو كان الإنسان هو من اخترع الآلة؟

على الارجح
ان هذا التبدل في القيم
جاء بفعل تأثير قيم المال والربح
في النظام الرأسمالي،
فاستبدال الذكاء الإنساني بالذكاء الاصطناعي
لم يكن نتيجة لفعاليته في الطب او في التعليم
بقدر ما كان استجابةً عمياء
لقيم المال
التي اعتبرت الذكاء الإصطناعي
مصدر ربح أكبر،
فأكثر المستثمرين اليوم في الذكاء الاصطناعي
هم أكبر أغنياء العالم
من أمثال ماسك وزوكربرغ.

هكذا ننتبه فجأة،
انه في حين كنا نعطي قيمة عليا للذكاء الانساني،
كنا في الوقت نفسه نقدّس حرية السوق
في تشكّل الأجور والاسعار والارباح،
وما حرية السوق الا استسلامٌ تام
للذكاء الانساني أمام غباء السوق
المتجسّد بعشوائية العرض والطلب،
فالذكاء الانساني
يستخدم الفكر والتخطيط لتحقيق أهدافه
ولا يترك ذلك للصدف
تحت شعار “دعه يفعل دعه يمر”
كما توصي حرية السوق
بحجة ان ذلك يؤدي حتماً الى خير الجميع
في حين انه لم يؤدِ الا الى إنتفاع القلة
وافتقار الأكثرية.

لو ان الإنسان
وضع العاطفة بمرتبة الذكاء
كقيمة متساوية في الأهمية،
لكانت العاطفة ربما قد نبّهت الذكاء
إلى خطورة الخضوع لقيم المال والربح
اللذين يجلبان الفقر والآلام والتعاسة
للملايين من البشر،
ولكان الذكاء الإنساني
حافظ على مرتبته العليا
ولم يتنازل عنها للذكاء الاصطناعي
الذي يتميّز بالإفتقاد إلى العاطفة
في جمعه للمعلومات وتحليلها والخروج بإستنتاجات.

غبي الذكاء الانساني
بدون العاطفة،
وقد جاء البرهان ساطعاً جلياً
من خلال سيطرة الذكاء الاصطناعي
على الذكاء الإنساني.

ألا يولد الإنسان
بدماغين يتواصلان باستمرار،
الدماغ المعرفي والدماغ العاطفي،
فيتخذان القرارات بالشراكة؟

ما الذي تغيّر
في انسانية الإنسان
حتى استقل
الدماغ المعرفي عن الدماغ العاطفي؟

انه السؤال “الانسانوي” Humaniste الأول
في زمن هيمنة المال والروبوتات
على حياة البشر
وعلى تطور المجتمعات.

الروبوتات تحتل مكان البشر
في العمل
وقد توقّع البعض “نهاية العمل”
نتيجة هذا التطور،
فماذا سيفعل هذا الذكاء الاصطناعي ومالكوه
بملايين البشر
الذين سيرمونهم في الشارع؟

ليست المرة الأولى
التي تصطدم التكنولوجيا بالعمل الانساني،
فلطالما كان التطور التكنولوجي
أحد اسباب البطالة العمالية،
لكن نتائج التكنولوجيا لم تقتصر فقط
على مستوى البطالة
بل على مستوى العمل نفسه،
الذي فتته التكنولوجيا في مرحلة معينه
وبات معه العامل مثل الآلة
يؤدي اعمالاً يدوية بسيطة ومتكررة
لا تتطلب ذكاءً بقدر ما تتطلب قدرة على التأقلم
مع الواقع الظالم والمؤلم
المتمثّل بتجريده
من المبادرة والتخطيط واتخاذ القرارات.

العلاقة بين تطور الفكر ومعه الذكاء من جهة
والممارسة في الحياة وفي صلبها العمل،
من جهة ثانية،
هي مسألة معروفة
تناولتها العلوم الاجتماعية والنفسية،
فأي مصير لهذا الفكر وهذا الذكاء
عندما تحل الآلة مكان عمل الانسان
وعندما يصبح معظم الناس بلا عمل؟

الذكاء الإنساني
لم يتخلَّ فقط عن قيمته
للذكاء الاصطناعي،
بل تركه يقصي الإنسان عن العمل
مما سيفاقم دونيته تجاهه،
اذ أفقده ذلك احد اهم مصادر تطوره التاريخية.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com