#لبنان الذي خطف #العدالة : عشر سنوات من أسر #هانيبال_القذافي بين ميليشيات السياسة وقضاءٍ خاضع…

إفراج يفضح انهيار الدولة

إفراج يفضح انهيار الدولة

بقلم د. عبد العزيز طارقجي – خاص بوابة بيروت
@dr_tarakji

لم تكن قضية هنيبعل القذافي يومًا نزاعًا قضائيًا أو بحثًا جديًا عن الحقيقة، بل كانت منذ اللحظة الأولى ملفًا ملوّثًا بالخطف والابتزاز والتسييس، تحكمه المصالح الطائفية وتديره مراكز القوى والميليشيات، بينما لعب القضاء اللبناني دور التابع المطيع لا الحَكَم المستقل.

عشر سنوات ظلّ فيها الرجل في السجون لا لأنه متهم، بل لأنه ورقة سياسية ووسيلة ضغط تحمل اسمًا أرادت أطراف داخلية وخارجية استعماله لخدمة حساباتها.

القصة بدأت بجريمة واضحة: خطف الرجل من خارج الأراضي اللبنانية في عملية نفذتها مجموعة مرتبطة بجهات نافذة داخل لبنان، تحديدًا عناصر تدور في محيط “حركة أمل” التي سيطرت لاحقًا على ملف الإمام موسى الصدر.

ورغم أنّ القانون اللبناني واضح في المادة 569 من قانون العقوبات التي تُجرّم الخطف وتشدد عقوبته، لم يفتح القضاء اللبناني أي تحقيق جدي في هذه الجريمة، بل جرى التعامل مع الخاطفين كأنهم أصحاب “معلومات”، ومع الضحية كأنه مجرم جاهز للتوقيف.

هنيبعل القذافي كان طفلًا في السنتين حين اختفى الإمام الصدر عام 1978، ومع ذلك تحوّل إلى “رمز انتقامي” جاهز للاستخدام السياسي، فتمّت معاقبته على حدث سبق وُجوده ووعيه.

هذا التناقض الفاضح لم يمنع القوى المتحكمة بالملف من الاستمرار في استثماره، وعلى رأسها حركة أمل وحزب الله، بحيث تحوّل التوقيف إلى ورقة ضغط داخلية وإقليمية، تُفتح وتُقفل وفق التوازنات السياسية.
ولم يكن المشهد لبنانيًا صرفًا، إذ دخلت جهات سورية نافذة (في عهد حكم الديكتاتور بشار الأسد الهارب من العدالة) على خط الملف، معتبرة وجود “هنيبعل” خلف القضبان ورقة قابلة للتوظيف في علاقتها مع أطراف ليبية، ومع قوى إقليمية لها حساباتها في ما تبقى من نفوذ لعائلة القذافي.

وهكذا، أصبح الرجل محاصرًا بين ثلاث قوى رئيسية:
حركة أمل – حزب الله – جهات سورية أمنية وسياسية .
وكلها رأت فيه مكسبًا تفاوضيًا لا إنسانًا له حقوق.

أمّا القضاء اللبناني، قد تخلّى عن النصوص الدستورية والقضائية التي كان يجب أن تحميه.

فالمادة 8 من الدستور اللبناني تنصّ على أنّ “الحرية الشخصية مصونة ولا يجوز القبض على أحد أو حبسه إلا وفق أحكام القانون”، والمادة 20 تضمن استقلال السلطة القضائية وحق كل فرد بمحاكمة عادلة. كما أن المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي وقّع عليه لبنان، تحظر الاحتجاز التعسفي.

لكن رغم ذلك، بقي “هنيبعل” عشر سنوات في السجن بلا محاكمة مكتملة، بلا أدلة، بلا شهود، وبلا أي أساس قانوني يسمح باستمرار التوقيف.

المادة 107 من أصول المحاكمات الجزائية تنص على أن التوقيف الاحتياطي استثناء لا قاعدة، وأنه يجب أن يكون محدد المدة ومبررًا بحجة واضحة، لكن كل ذلك تم تجاهله، وتحوّل التوقيف إلى وسيلة انتقام سياسي محض.
وجاءت اللحظة الأكثر انكشافًا حين صدر قرار الإفراج عنه مقابل كفالة مالية خيالية لا تستند إلى أي نص قانوني، ولا إلى أي اجتهاد قضائي معروف.
المادة 111 من أصول المحاكمات الجزائية تحدد أن الكفالة هدفها الوحيد ضمان حضور المدعى عليه، ولا يجوز أن تكون أداة عقاب، أو مبلغًا تفاوضيًا، أو ثمنًا سياسيًا.

لكن القرار بدا وكأنه فدية رسمية تُجبى مقابل حرية رجل لم تثبت عليه أي تهمة.
هذا الإفراج لم يكن انتصارًا للعدالة، بل كان فضيحة علنية تؤكد أن القضاء اللبناني لم يعد سوى جزء من منظومة الطاعة السياسية، وأن الملف أغلق لأن الأطراف التي كانت تحتاج ورقته لم تعد تراها ضرورية.
خرج هنيبعل القذافي من السجن، لكن القضية بقيت أكبر وصمة على جبين الدولة اللبنانية:
قضاء لم يحقق في الخطف، خالف الدستور، تجاهل القوانين، عمل تحت ضغط ميليشيوي، وأفرج بكفالة غير قانونية.

خرق صريح للدستور والقانون
إن استمرار توقيف هنيبعل القذافي لعشر سنوات، ثم الإفراج عنه بكفالة خارجة عن كل أطر القانون، يمثّل انتهاكًا مباشرًا وصريحًا للدستور اللبناني ولعدد من مواده الأساسية:
– المادة 8 من الدستور: انتُهكت حين جرى القبض عليه بلا سند قانوني، واستمر حبسه رغم زوال المبرر.
– المادة 20 من الدستور: سقطت حين فقد القضاء استقلاله وخضع لضغوط الأحزاب والميليشيات.
– المادة 2 من الدستور التي تفرض احترام التزامات لبنان الدولية: جرى انتهاكها عبر مخالفة المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر الاحتجاز التعسفي.
– المادة 107 من أصول المحاكمات الجزائية: انتهكت بالكامل لأن التوقيف الاحتياطي تحوّل إلى عقوبة سياسية طويلة.
– المادة 111 من أصول المحاكمات الجزائية: جرى تحريفها عند فرض كفالة مالية لا غرض لها سوى الابتزاز، وهو تجاوز قانوني يرقى إلى مستوى إساءة استعمال السلطة.
إن هذه المخالفات مجتمعة لا تشكل فقط خطأ قضائيًا، بل جريمة دستورية تمسّ جوهر الدولة وواجباتها، وتكشف انهيار استقلالية القضاء وتحويله إلى ذراع طيّع بيد السلطة السياسية والميليشيات.
لقد خرج هنيبعل القذافي حرًا، ولكن العدالة في لبنان ما زالت أسيرة، لا تحرّرها نصوص الدستور بل إرادة القوى التي تتعامل مع البشر كما تتعامل مع الأوراق السياسية.

نصيحة موجهة للحكومة اللبنانية
إنّ الحكومة اللبنانية، إذا كانت جادة فعلًا في استعادة ما تبقى من سمعتها الدولية، مطالبة باتخاذ خطوات جذرية لا تجميلية، تبدأ برفع يد السياسيين عن القضاء، وتنتهي بإعادة بناء السلطة القضائية من أساسها. إنّ الاستمرار في حماية القضاة الخاضعين للأحزاب، والتغاضي عن المدّعين العامين الذين يعملون كمفوضين سياسيين لا كسلطة عدلية، يضع لبنان في موقع الدولة الفاشلة أمام المجتمع الدولي.
وعليه، فإنّ النصيحة الواضحة والملحّة للحكومة هي: إقالة كل قاضٍ وكل مدعٍ عام ثبت ولاؤه لجهة سياسية، وتعيين قضاة مستقلين فعلًا، ليستعيد القضاء مكانته كسلطة تحمي الدستور بدل أن تُستخدم كأداة بيد الطوائف.
إنّ أي دولة تحترم نفسها لا يمكنها أن تقبل باستمرار هذا النموذج من التدخلات الميليشيوية والسياسية في القضاء. وإذا لم يتحرك لبنان اليوم لحماية استقلال القضاء، فلن يبقى ما يمكن إنقاذه غدًا — لا سُمعة، ولا مؤسسات، ولا دولة.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com