بقلم غسان صليبي

كاتب
يقولون “الإعتراف بالخطأ فضيلة”. فكيف ِإذا كانت نتيجة الخطأ هزيمة عسكريّة أدّت الى نكبة إجتماعية وإقتصاديّة ووطنيّة؟
ما يقوله معظم الناس بشأن أهمية الإعتراف بالخطأ فيه الكثير من الصحّة لأنه مبني على تجربة إنسانيّة مجتمعيّة راسخة. فالإعتراف بالخطأ يعيد ترتيب العلاقات بين الناس، بعد أن تكون قد اهتزّت بفعل الخطأ المرتكب. كما انه بحسب التجربة ايضًا، الإعتراف هو خطوة أساسيّة نحو التعلّم والتطور وتجاوز الأخطاء بدل تكرارها.
لكن الإعتراف بالخطأ يتطلّب شجاعة أخلاقيّة ومجتمعيّة. أخلاقيّة، لأنه إعتراف بخطأ إرتُكِبَ، وهذا الخطأ منافٍ للأخلاق بمعناها الواسع، إذ يُفترض ان الخطأ قد تسبّب بالأذى لبعض الناس. مجتمعيّة، لأن الإعتراف بالخطأ يرتّب على صاحبه مسؤوليّة مجتمعيّة تجاه الذين تسبب لهم بالأذى.
“حزب الله” لم يعترف بخطأ ارتكبه عندما أقدم على حرب الإسناد، ولا بهزيمة عسكريّة نتيجة هذا الخطأ، لأن “حزب الله” يخشى الإعتراف، أخلاقيًّا ومجتمعيًّا. أخلاقيًّا، لأنه يعتبر بأن ما قام به هو في صلب عقيدته وهو مكلّف به من الولي الفقيه، فكيف يكون خطأ ما هو واجب ديني، وكيف تكون هزيمة وشعاره هو “حزب الله هم الغالبون”؟ أبعد من ذلك، ولأن هزيمة حزب الله ترافقت مع هزيمة محور الممانعة ككل وسقوط مشروعه الأساسي في تصدير الثورة الإيرانيّة، يصبح إعترافه بالهزيمة بمثابة إعتراف بانتفاء سبب وجوده.
أما ما يخشاه حزب الله مجتمعيًّا من خلال إعترافه بالخطأ وبالهزيمة، فهو تحمّل المسؤوليّة الاجتماعية والإقتصاديّة والسياسيّة والوطنيّة لخطئه وهزيمته.
إعتراف المسيحي عند الكاهن، يريحه ضميريًّا ويسمح له بمتابعة حياته متحرّرًا من عبء الذنب. وإعتراف المريض النفسي عند المعالج النفسي، بما يخبّئه عن نفسه وعن محيطه، يحرّره من النظرة السلبيّة تجاه نفسه ويسمح له مجدّدًا من التعامل مع الواقع، قبولاً أو رفضًا. في الحالتين يؤدّي الإعتراف بما نحن عليه، أمام مرجعية متسامحة او متقبّلة، الى إستعادة الثقة بالنفس والقدرة على الفعل مجتمعيًّا. أكثر ما نخشاه من عجز “حزب الله” عن الإعتراف بالخطأ وبالهزيمة، هو تفاقم نزعة التدمير الذاتي عنده وما يمكن ان ينتج عن ذلك من عدوانيّة تجاه بيئته وشعبه على حد سواء.
وكما يحتاج المسيحي او المريض النفسي الى مرجعية متسامحة او متقبّلة للإعتراف امامها، يحتاج “حزب الله” هو أيضاً الى مثل هذه المرجعيّة المتسامحة أو المتقبّلة للإعتراف أمامها. واني أجد في تصريح رئيس الجمهوريّة أن “حزب الله بشقّه العسكري انتهى. يأتون اليّ وهم يدركون هذا الواقع وهذه النتيجة، لكنهم يحرصون على نهاية مشرّفة، وعلى مخرج لائق، وهذا ما نسعى الى إنجازه”، اني أجد في التصريح هذا، الذي لم يكن ليكون لولا موافقة “حزب الله”، محاولة من الحزب للتفتيش عن هذه المرجعيّة الوطنيّة، المتسامحة أو المتقبّلة، عن طريق رئيس الجمهوريّة.
عندما يكرر حزب الله في بياناته وفي تصريح قياداته، تحميل الدولة مسؤوليّة رد العدوان الإسرائيلي وإعادة الإعمار، لا يعبّر فقط عن رغبته في التهرّب من المسؤوليّة وإلقائها على عاتق الدولة بقدر ما يعبّر أيضًا عن حاجته للدولة للخروج من أزمته الوجوديّة.
إذا نظرنا الى “حزب الله” كحزب مسلّح نفقد الكثير من فهمنا للظاهرة التي شكّلها ولكيفيّة التعامل معها على المستوى الوطني. ذلك ان “حزب الله” هو حاكم دويلة بالمعنى المالي والسياسي والعسكري والديني وليس حزبّا عسكريًّا فحسب، والسؤال الأهم الذي يجب ان يطرحه اللبنانييون جميعًا على انفسهم، هو لماذا انخرط معظم شيعة لبنان في مشروع “حزب الله” الذي يناقض دستور الدولة اللبنانيّة ويتجاوز حدودها الدوليّة؟
تفسير ظاهرة “حزب الله” في لبنان، أي سبب وجوده كظاهرة مجتمعيّة استقطبت معظم شيعة لبنان، يحتاج الى الإجابة على هذا السؤال المؤلم. ولا إجابة مقنعة عن هذا السؤال من خلال الإكتفاء بترداد مقولة “الاحتلال الإيراني” بواسطة وكيله “حزب الله”. معظم الشيعة اللبنانيين خرجوا عن دستور وقيم وحدود وطنهم بالتحقاهم ب”حزب الله”، وهذا ما يحتاج الى تفسير، وهذا ما لا يمكن تفسيره من دون التوقف عند علاقة شيعة لبنان بدولتهم ووطنهم.
لن أبحث في هذا النص في حيثيات هذه العلاقة ومساراتها منذ نشأة لبنان الكبير، سأكتفي بتكرار اعتقادي ان ظاهرة “حزب الله”، في هزيمته كما في انتصاراته، هي هزيمة للدولة وللوطن الذي أسمه لبنان. وان اعتراف “حزب الله” بخطئه وبهزيمته يفترض أيضا إعتراف لبنان كدولة وكوطن بهزيمته، إذ انه فشل في منع معظم مواطني مكوّن من مكوّناته من الخروج منه وبناء دويلتهم المستقلّة. وربما قد يتجرأ عندها “حزب الله” ويعترف بهزيمته امام المرجعية الوطنية المتسامحة والمتقبّلة بفعل هزيمتها هي أيضاً، مما يحتّم على الجميع إيجاد صيغة حكم مستقبلية لا تشجّع مكوِّن من مكوّناتها، على بناء دويلته المستقلّة.
هزيمة الدولة والوطن ليست من عمر “حزب الله”، بل من عمر حروبه الأهلية. منذ أيام قليلة إعترف رئيس الحكومة نواف سلام بأن جيله حمّل لبنان أكثر من طاقته من خلال انخراطه في الحرب الى جانب المقاومة الفلسطينيّة.
وكان محسن ابراهيم، أحد قادة “الحركة الوطنيّة”، قد قام بالإعتراف نفسه، في نقده الذاتي لتجربته هو وجورج حاوي على رأس “الحركة الوطنية” أبان الحرب.
لكن السؤال الأهم الذي لم يطرحه، لا نواف سلام ولا محسن ابراهيم، هو “لماذا حمّلنا لبنان أكثر من طاقته”؟ وإذا كانت أحزاب “الجبهة اللبنانيّة” لم تعترف بعد بانها هي أيضًا حمّلت لبنان أكثر من طاقته، عبر التحالف تارةً مع النظام السوري في بداية توغّله في لبنان، وتارةً أخرى مع إسرائيل، إلاّ أن الجهتين المتحاربتين ترجمتا موقفهما من لبنان بما يشبه تقسيمه الى مناطق نفوذ شبه مستقلة، تذكّر بدويلة “حزب الله”، وإن كانت لم تصل، أو لم يتسنّ لها ان تصل، الى مستوى إستقلاليّة هذه الدويلة على المستوى المالي والإقتصادي والسياسي العسكري.
لكن نزعة الإنفصال كانت موجودة عند الطرفين، ما يطرح إشكاليّة هذه الدولة وهذا الوطن الذي تسعى “مكوناته” دورياً الى تقسيمه ان لم تستطع الهيمنة عليه.