اللغة العربية… هويتنا التي نتخلّى عنها

رغم أنّ اللغة تشكّل الركن الأساس في تكوين الوعي الجمعي والهوية الثقافية، يبدو أننا في العالم العربي نبتعد تدريجيًا عن أهم عنصر من عناصر قوتنا الحضارية: اللغة العربية. هذا الابتعاد ليس مجرد ميل لغوي، بل هو مؤشر عميق إلى اختلال في علاقتنا مع ذاتنا ومع ماضينا ومع مستقبلنا.

من منظور علم الاجتماع اللغوي، تُعدّ اللغة الحاملة الأساسية للمعرفة، والوعاء الذي تتشكّل فيه أنماط التفكير والسلوك. والأمم التي تحافظ على لغتها هي في الواقع تحافظ على قدرتها على إنتاج المعرفة، وعلى صياغة مشروعها الثقافي والحضاري. أما التخلّي عن اللغة لصالح لغات أخرى، دون تطويرها أو الاستثمار فيها، فهو تخلٍّ عن أداة التفكير نفسها، وعن الركيزة التي تُبنى عليها الهوية الوطنية.

أسباب هذا التراجع متعددة:

  • غياب سياسات لغوية وطنية تهدف إلى تطوير العربية وتحديثها لتواكب العلوم والتكنولوجيا.
    مناهج تعليمية تقليدية تقدّم اللغة بصورتها الأصعب والأبعد عن الحياة اليومية، ما جعل الأجيال الجديدة تنفر منها وتبحث عن لغات “أسهل” وأكثر ارتباطًا بالعصر.
  • خطاب اجتماعي وثقافي يُقزّم اللغة العربية ويُقدّمها كدليل تخلف، مقابل تقديم اللغات الأجنبية كعلامة تحضر، مما ولّد شعورًا بالدونية تجاه لغتنا الأم.
  • غياب الاستثمار في المحتوى العربي الرقمي والعلمي، ما أدى إلى فجوة معرفية كبيرة، جعلت أبناءنا يعيشون ثقافيًا ولغويًا خارج فضائهم الطبيعي.

لكن الخطورة لا تكمن فقط في تراجع استخدام العربية، بل في فقدان القدرة على التفكير بها. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي المنظومة التي تشكّل المفاهيم وتبني الإدراك. وأمة لا تفكر بلغتها، لن تفكر بذاتها، ولن تنتج حلولًا لأزماتها، ولن تتمكن من بناء مشروعها الوطني.

من منظور علمي، كل نهضة في التاريخ اقترنت بنهضة لغوية:

  • النهضة الأوروبية بدأت بتثبيت اللغات المحلية في العلم والفلسفة.
  • اليابان وكوريا طورتا مناهجهما العلمية بلغتيهما فسبقتا العالم.
  • وحتى الدول الصغيرة التي تمتلك لغات محدودة الانتشار، حافظت عليها لأنها جزء من أمنها الثقافي.

 

في المقابل، نحن نتخلى عن لغتنا في اللحظة التي نحتاجها فيها أكثر من أي وقت.ن

تخلى عن مصدر القوة، وعن الرابط الجامع، وعن الأداة التي يمكن أن تُعيد تشكيل وعي جديد لدى الأجيال.

السؤال الجوهري

كيف يمكن لأمة لا تعرف لغتها أن تعرف نفسها؟

وكيف يمكن لمجتمع فاقد لأداته الفكرية أن يشارك في حلّ أزماته أو في إنتاج المعرفة؟
وكيف نتوقع من شبابنا الانتماء لوطن لا يشعرون بانتماء لغوي إليه؟

إن استعادة العربية ليست مشروعًا لغويًا فحسب، بل مشروع تحرّر فكري وإحياء حضاري.

هي الخطوة الأولى لاستعادة مكانتنا، وقدرتنا على التفكير، وفهم مشاكلنا، وبناء مستقبلنا.

اخترنا لك