بقلم خلود وتار قاسم

كاتبة وناشطة سياسية
في القرنين الماضيين، كان الاستقلال يُقاس بقدرة الدولة على حماية حدودها، وامتلاك جيشٍ وطني يردع أي اعتداء خارجي. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد جذريًا. أصبح العالم يعيش تحوّلًا غير مسبوق: المستعمر لم يعد بحاجة إلى جيوش أو سفن أو قواعد عسكرية. صار يكفيه الوصول إلى البيانات.
الاستعمار الجديد: احتلال بلا جنود
الشركات التكنولوجية العملاقة باتت تمتلك قوة تحليل ومعالجة تفوق قدرات كثير من الحكومات. هي تعرف سلوك الأفراد، وحركة الأسواق، وتوقّعات الأزمات، ومسارات الأمن القومي.
ومع هذا الكم الهائل من المعلومات، تستطيع التأثير في القرار الوطني بطرق لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُواجه بالسلاح التقليدي:
– الاحتلال اليوم لا يرفع علمًا على أرضٍ محتلة، بل يرفع خوارزمياتٍ فوق بياناتنا.
– هو احتلال ناعم، هادئ، لكنه يحكم الدولة من أعماقها.
– أزمة الدول الصغيرة: بين التبعية الرقمية وفقدان القرار
تعاني الدول الصغيرة “ومنها الدول العربية” من فجوة خطيرة:
نحن نعيش في عالم تتحكّم به البيانات، لكننا لا نمتلك المؤسسات القادرة على إدارتها أو حمايتها أو حتى فهم حجم خطورتها.
لماذا نحن عاجزون؟
– غياب بنية تحتية وطنية للبيانات
معظم البيانات الحساسة — صحية، مالية، تجارية، أمنية — موزّعة بين شركات خاصة وبنوك – – عالمية ومنصات خارج السيطرة الوطنية.
– عدم وجود مراكز تحليل وطنية قادرة على المنافسة
لا توجد مؤسسات بحثية أو تكنولوجية قادرة على تحليل البيانات بالسرعة والدقة التي تملكها – الشركات العالمية.
– تسليم البيانات طوعًا بسبب ضعف الحوكمة
كثير من الدول الصغيرة تعتمد تقنيًا على شركات خارجية لإدارة قطاعات حساسة مثل:
الأمن السيبراني
نظم الانتخابات
البنى التحتية الرقمية
قواعد بيانات المواطنين
وهذا يعني أن “مفاتيح البيت” ليست في أيدينا.
نقص الكفاءات الوطنية
هجرة العقول، وضعف الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وغياب رؤية استراتيجية جعلتنا مستهلكين للتكنولوجيا، لا منتجين لها.
سؤال الاستقلال: من يملك قرار من؟
حين تصبح الدولة محتاجة إلى شركة خارجية لتحليل بياناتها، أو لتشغيل أجهزتها الأمنية، أو لتوقع سلوك شعبها… فإن القرار الوطني يصبح مشتركًا، وربما مُوجّهًا من الخارج دون أن نشعر.
اليوم، لم تعد السيادة تُقاس بجيشٍ قوي، بل بامتلاكك:
شبكاتك الرقمية
*خوادمك الوطنية
بيانات مواطنيك
مؤسسات تحمي معلوماتك
وقدرتك على صناعة التكنولوجيا لا استيرادها
من دون ذلك، يصبح الاستقلال شعارًا جميلًا، لكنه فارغ من مضمونه.
أين نقف نحن؟
نحن شعوبٌ اعتادت قياس الاستقلال بالعلم والنشيد والسلاح، ولم ندرك أن الحرب الحقيقية تجري على مستوى المعلومة، وأن المستعمِر الحديث لا يقترب من أرضك… بل يدخل إلى بياناتك ويعيد تشكيل دولتك من داخلها.
هل ما زلنا مستقلين؟
إذا كانت بياناتنا في الخارج…
وأنظمتنا الوطنية تُدار من شركات عالمية…
ومؤسساتنا عاجزة عن التحليل والحماية…
ومفاتيح قراراتنا ليست بأيدينا…
فممَّ نحن مستقلون؟
وعن أي سيادة نتحدث؟
الخوادم الوطنية تساوي السيادة الرقمية. من دونها، لا تستطيع أي دولة الادعاء أنها تسيطر على بياناتها أو مؤسساتها، لأن كل شيء مخزن ومحفوظ ومراقَب خارجها.