“العولمة” من الوعد الكوني إلى الخراب المحلي… لبنان نموذجًا

بقلم خلود وتار قاسم

لم يهبط الخراب على لبنان فجأة، ولم يكن قدرًا جغرافيًا أو لعنة تاريخية كما يحلو للبعض أن يروّج.

ما نعيشه اليوم هو نتيجة مسار طويل، ناعم في شكله، قاسٍ في نتائجه، اسمه: العولمة.

العولمة لم تدخل إلى لبنان بالدبابات، بل بالشعارات.

لم تأتِ كاحتلالٍ مباشر، بل كوعد: ديمقراطية، حرية، اقتصاد منفتح، مجتمع عالمي، قرية كونية لا حدود فيها ولا صراعات.

لكن السؤال الذي لم يُطرح يومًا بجدية: هل كانت هذه الوصفة مُعدّة أصلًا لمجتمعٍ كلبنان؟

أم أن لبنان أُقحم في نموذج لم يُصمَّم له، ولم تُراعَ تركيبته، ولا هشاشته، ولا تاريخه المعقّد؟

لبنان بلدٌ قائم على التنوّع، على توازنات دقيقة، على هوية مركّبة لا تُختزل بشعار ولا تُدار بنموذج جاهز.

وحين طُرحت عليه فكرة “المجتمع الواحد” و”المصلحة الواحدة” و”الانفتاح المطلق”، لم يُحضَّر لها نفسيًا ولا اجتماعيًا ولا اقتصاديًا، بل فُرضت عليه كحقيقة نهائية.

فتحنا الأسواق قبل أن نبني دولة. حرّرنا الاقتصاد قبل أن نُحصّن المجتمع. رفعنا شعارات الديمقراطية قبل أن نؤسّس العدالة. فكانت النتيجة:

  • دولة ضعيفة
  • مجتمع مُفكّك
  • فرد تائه بين هويات متناقضة
  • واقتصاد بلا سيادة

في لبنان، لم تُلغِ العولمة الطائفية، بل غذّتها. لم تُوحِّد المجتمع، بل عمّقت الانقسامات. لم تحرّر الإنسان، بل حوّلته إلى كائنٍ استهلاكيّ، يعيش حياة افتراضية، ويقيس قيمته بما يملك لا بما يكون.

جيلٌ كامل نشأ وهو يرى العالم من شاشة: حياة لامعة، سهلة، بلا جذور. فخلع هذا الجيل رداء أرضه، وبدأ يشعر بأن بلده “أصغر من أحلامه”، لا لأن لبنان فقير بالمعنى، بل لأن النموذج المفروض عليه أكبر من قدرته على الاحتمال.

تحت شعار الحقوق والحريات، جرى تفكيك الهوية. وتحت عنوان الانفتاح، فُكِّكت المرجعيات الأخلاقية والثقافية. وتحت راية “العالم الواحد”، أصبح القرار اللبناني مرتهنًا لمنظومات مالية وسياسية عابرة للحدود.

العولمة وعدت لبنان بالاندماج في العالم، لكنها نزعت عنه أدوات الحماية. فتحَت حدوده لرأس المال، وأغلقت الأفق أمام الإنسان.

وهنا لا تكمن المشكلة في الانفتاح بحدّ ذاته، بل في انفتاح غير متكافئ، قوي يفرض نموذجه، وضعيف يُطلب منه التكيّف… أو الانهيار.

لبنان اليوم ليس دولة فاشلة فقط، بل ضحية نموذج عالمي لم يعترف يومًا بالخصوصيات، ولم يؤمن فعلًا بأن الشعوب متساوية في الحق والكرامة والفرص.

الخروج من هذا المأزق لا يكون بالعودة إلى القوقعة، ولا برفض العالم، بل بإعادة طرح السؤال الجوهري، كيف ننفتح من دون أن نُمحى؟

كيف نتطوّر من دون أن نفقد هويتنا؟ كيف نشارك في العالم من موقع الشريك لا التابع؟

العولمة، إن لم تُبنَ على قيم إنسانية مشتركة حقيقية، وإن لم تُراعَ الفوارق التاريخية والنفسية بين المجتمعات، تبقى مشروعًا ناقصًا… ومدمّرًا.

ولبنان، بكل ما فيه من ألم، هو الدليل الحيّ على ذلك.

اخترنا لك