هي تفتح لي الباب وتدعوني إلى الدخول

بقلم عقل العويط

أمام مكتبتي أقف كلّ يوم، كلّ صباح، وفي أوقاتٍ مختلفةٍ من النهار والليل.

أقف، ومعي عقلي، وقلبي، فتفتح لي المكتبة أبوابها، وتدعوني من دون أنْ تنبس، وسرعان ما هي تنفتح على أبوابٍ ومكتباتٍ وكتبٍ لا حدّ لها، وتأخذني هذه الأبواب والمكتبات والكتب إليها، وأروح لا أعرف إلى أين، لكنّي أعتقد أنّي أدخل إلى مناطق غير مأهولة وغير معلومة، وأحيانًا غير موجودة بالحسّ، فأتعرّف إلى نفسي المجهولة أوّلًا، وأتعرّف ثانيًا وثالثًا إلى مشاعرَ وحالاتٍ وأفكارٍ ولغاتٍ وأساليبَ وأماكنَ وأزمنةٍ وأناسٍ وشعوبٍ وأشعارٍ وفلسفات، فأجول فيها، وأكتشف، وأتأمّل، وأتراكم، وأحيانًا أهوى أنْ أبقى هناك، نعم، أهوى أنْ أبقى هناك، فلا أعود أريد الخروج، كما لا أعود أعرف كيف أعود، لكنّي أعود إلى هنا، عارفًا أنّ الشخص الذي يعود ليس هو الشخص الذي كانه قبل الوقوف والمثول. ما أجمل أنّ ذلك يحصل معي، وفيَّ!

كلّ يومٍ تقريبًا يحصل معي الشيء ذاته، لكنْ بحالاتٍ وطرقٍ متنوّعة، فلا أقع في التكرار والعادة، ولا يصيبني ضجر، فينساني – إلى وقتٍ – وجع الوجود، وأنسى سوء المصير، وما يعتري الكون والعالم من انحطاطٍ ومآسٍ ومجازرَ، وما آل إليه الشرط البشريّ من همجيّاتٍ لا ينبغي ولا يُحتمَل أنْ تكون من أخلاق البشر وأفعالهم. ويجب أنْ لا تكون. لكنْ هيهات!

عندما يحصل معي ما يحصل معي، تُدار بيني وبين المكتبات، حواراتٌ تفوق قدرة الجسد على الاستيعاب، فأراني أنحني لها، وأتقبّلها، وأزداد بها، وأعتقد أنّ هذا الذي يجري معي قد يراه بعض العامّة جنونًا وانحرافاً وشبهَ ذلك، وغيره، لكنْ يسرّني ويغبطني أنْ أكون موضع استغرابٍ واستهجان، وأنّي أفعل ذلك كلّه، أي هذا الوقوف، وذاك التغيّب، وأُجري تلك الحوارات، بلا انتباه، وربّما بإرادةٍ خفيّة، وهذا هو السرّ، وهذا هو العجب، حيث أصير كائنًا مضافًا، وآخر، وربّما منتميًا إلى عالم آخر، إلى أنْ تحصل معي أمورٌ غريبةٌ ومختلفة، وتكتنفني حالاتٌ غريبةٌ ومختلفة، من مثل أنْ أصير أنا الكتب وما فيها، وأصير أنا العوالم، وتصير هي إيّايَ، في انسجاماتٍ لا أعرف لها تفسيرًا وتأويلًا. والأشدّ غرابةً، أنّي في بعض الحالات التصعيديّة، لا أعود أعرف كيف أعود، وربّما لا أحبّ أنْ أعود. لأنّ العالم صار لا يُعاش، ولا يُحتمَل، ولا يُطاق. وهو كذلك. يا للعار!

يرافقني كوبر، السيّد كوبر، في جولتي هذه، مؤثرًا البقاء في الغرفة، واقفًا معي، متأمّلًا، مسافرًا، ومنسجمًا وإيّايَ والكتبَ، إلى حدّ التصوّف، مستهجنًا العالمَ والحقارةَ الكونيّة، ناظرًا إليَّ، ربّما بعرفانٍ، لأنّه يقيم ها هنا، وليس في العالم.

وعندما أنا أعود، يعود هو (أي كوبر) معي، ويطيب له ولي أنْ ننصت إلى الموسيقى، إلى اللوحات، إلى أثاث المنزل، إلى الكائنات المرافقة، وأنْ نجالسها، وأنْ هي تجالسنا، فنصير الموسيقى واللوحات والأثاث والكائنات التي تعيش معنا وترافقنا، وهي تصير إيّانا.

وكلّ هذا يحصل بلا انتباهٍ، وبإرادةٍ سرّيّةٍ لاواعيةٍ، وبغبطةٍ، من شأنها أنْ تيسّر عبء الأرض، وما عليها، ومَن عليها، ولا سيّما التشييئ الهستيريّ، والانحلال العقليّ، والاستغراق في النتانة الكونيّة.
وأكثر ما يميتني أنّ العالم الآن، وهنا، وهناك، وهنالك، لم يعد مكتبةً، ولا كتبًا، ولا روحًا، ولا عقلًا. العالم لم يعد كتابًا، ولا روحًا، ولا عقلًا. لكنْ لا مفرّ من عيشه.

فيا لَهول هذا الشرط البشريّ. ويا لَهول ما آل إليه.

أكنتُ أستطيع أنْ أعيش، وأحيا، لولا أنّي أقف كلّ يومٍ، كلّ صباحٍ، وفي أوقاتٍ مختلفةٍ من النهار والليل، ومعي عقلي، وكوبر معي، أمام المكتبة، فتفتح لي، وتدعوني إلى الدخول؟!

اخترنا لك