بقلم زكي طه
في إطار الحرب المفتوحة، التي قررتها حكومة الحرب في اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته الوطنية على أرضه، بإشراف ورعاية الإدارة الاميركية السياسية والعسكرية، يواصل جيش الاحتلال، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، تحت أنظار العالم أجمع، تنفيذ واحدة من أضخم عمليات القتل الجماعي والمجازر البشرية في التاريخ الحديث، من خلال التدمير الممنهج والشامل لمدن ومخيمات قطاع غزة. الذريعة هي إجبار السكان على النزوح منها للقضاء على حركة حماس.
تنفذ المذبحة بدعم وتواطوء غربي تشهد عليه مواقف قادة الدول الكبرى في العالم، التي تعتبر دولة اسرائيل الثابت الوحيد في المنطقة، وما عداها هو قيد الدرس. ويظللها أيضاً عجز عربي كامل لا يخفف من وطأته رفض بعض قادته تهجير الفلسطينيين من بلدهم، أو المطالبة بالحل السياسي والعودة إلى خيار الدولتين. في وقت تتعرض فيه منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لحصار خانق متعدد الجهات، يستهدف القضاء على ما تبقى لها من دور في الضفة الغربية، التي تحولت مدنها ومخيماتها مسرحاً للحصارات والمداهمات اليومية ولعمليات المطاردة، التي تنفذها قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين ضد الناشطين من أجل اعتقالهم أو قتلهم، والانتقام من السكان عبر تدمير منازلهم أو مصادرة أراضيهم وإتلاف مزروعاتهم ومواسمهم.
بصرف النظر عن المطالبة بحماية المدنيين الفلسطينيين، التي يعطلها الرفض الاميركي ـ الاسرائيلي لوقف اطلاق النار حتى لاسباب انسانية، وبعيداً عن سيل التحليلات والتوقعات حول مسارات الحرب المستمرة وجدول أهدافها واولوياتها بما فيها التحضيرات والمواعيد الافتراضية لإعادة احتلال قطاع غزة، ولأن الحرب طويلة وأهدافها ليست محصورة بالساحة الفلسطينية، فإن المطارات السورية ومواقع النظام وحلفائه لا تزال عرضة لعمليات القصف الاسرائيلي المتكرر دون رد. بينما يتعمد مسؤولو الإدارة الاميركية وقادة الدولة العبرية، ومنذ اليوم الأول للعملية، تكرار التهديدات للقيادة الايرانية وحزب الله في لبنان في حال المشاركة في الحرب، دون إغفال تحميل الحكومة اللبنانية المسؤولية الكاملة عما يجري على أرضه، وبالتالي عن تعريض لبنان لخطر الدمار الشامل. وهو ما تشاركهم فيه سائر الدول الاوروبية وفي طليعتها أميركا وفرنسا.
إن الإرتباك الذي احدثته عملية “طوفان الاقصى” لدى سائر الاطراف المعنية بها، لم تنج منه قيادتا النظام الايراني وحزب الله. لأنها وضعتهما بشكل مفاجىء أمام تحدي التعامل مع العملية ونتائجها ومضاعفاتها الخطيرة. كما دفعت بهما قسراً إلى امتحان الالتزام والقدرة على تحمّل أعباء الشعارات التي ظللت سياساتهما طوال عقود، بدءاً من شعار “زحفاً زحفاً نحو القدس”، إنتهاءً بشعار “وحدة الساحات”. ولذلك، وبصرف النظر عن بيانات التأييد اللفظي، لم يكن مفاجئاً أمام التهديدات الاميركية، أن تسارع القيادة الايرانية، على ألسنة مسؤوليها ومرشدها الأعلى، إلى نفي أي مسؤولية لها في العملية ووصفها بأنها صناعة فلسطينية.
في المقابل وأمام المأزق الصعب على صعيد المواجهة مع اسرائيل في ظل قرار الحرب التي تقودها أميركا، والتحديات غير المسبوقة التي يصعب الافلات منها، لم يكن مستغرباً أن يلجأ حزب الله إلى الاشتباك مع مواقع العدو الاسرائيلي في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا باعتبارهما أراضٍ لبنانية محتلة، إضافة إلى عمليات قصف محدودة نفذتها مجموعات فلسطينية حليفة له من الجهاد الاسلامي عبر الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. ورغم توسع رقعة الاشتباكات واستمرار تبادل عمليات القصف بشكل يومي على طول الحدود، إلا أن الطرفين لغاية الآن، وعبر مختلف الوسائط المعتمدة كانا حريصين على تأكيد الالتزام بقواعد الاشتباك. وهو ما لم تطعن به أو تخالفه المواقف المبدئية لقادة النظام في إيران، ووزير خارجيتها أثناء زيارته للبنان وبعض دول المنطقة.
إن الوضع القائم على الحدود اللبنانية الجنوبية، كان ولا يزال مصدر قلق وخوف لدى اللبنانيين وخصوصاً الجنوبيين منهم. وهو أحد أهم العوامل المقررة في الأزمة اللبنانية منذ تأسيس الكيان. لكنه الآن مصدر خطر حقيقي يهدد مصيره ومستقبله، نظراً لطبيعة أهداف الحرب الحالية ومفاعيلها ومضاعفاتها المختلفة عن كل ما سبقها، على أوضاع بلدان المنطقة واولها لبنان.
كثيرة هي العوامل التي تضع لبنان في عين العاصفة. في المقدمة منها، افتقاده للحد الأدنى من الحصانات الوطنية. وأهمها عدم وجود مرجعية سياسية وطنية شرعية مسؤولة عن أوضاع البلد، الذي يقيم وسط أزمات محتدمة على جميع المستويات. والاسباب تبدأ من رفض قوى السلطة تحمل مسؤولياتها وإنهاء الفراغ الرئاسي مدخلاً لانتظام مؤسسات الحكم. وانهيار أجهزة الدولة وإداراتها وقطاعاتها العامة. وتصاعد حدة الانقسام الأهلي وإدارة البلد بالفوضى. وانفلات السياسات الفئوية الضيقة وسيادة أوهام ومشاريع الهيمنات الطائفية، عبر الاستقواء بالسلاح أو بقوة الامر الواقع والارتهان للخارج، أو من خلال استحضار مشاريع الفدرالية والحياد الوهمي. وتفاقم أزمة النزوح السوري التي تفوق قدرة البلد على تحمّل أعبائها، وانعدام الحد الادنى من المسؤولية الوطنية في التعامل معها، ما يجعلها قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في اية لحظة. وانتهاءً بكارثة الانهيار الاقتصادي والمالي والارتفاع القياسي لمعدلات الفقر والبطالة والمرض والهجرة على نحو يصعب السيطرة على مضاعفاتها السلبية.
إن الأخطار المصيرية التي تهدد لبنان، لا تؤكدها فقط كثرة الانذارات المعلنة، ولا رسائل التحذير التي يحملها موفدو الخارج إلى المسؤولين اللبنانيين وقيادة حزب الله. وهي ليست محصورة بسياسات حزب الله المرتبطة بمخططات النظام الايراني التفكيكية لبلدان ومجتمعات المنطقة، واحتمالات تعريض البلد خلافاً لمصلحته الوطنية إلى مغامرة غير محسوبة، سواء في ظل شعار “وحدة الساحات لتحرير فلسطين” أو بحجة “نجدة الشعب الفلسطيني”، لأن ذلك سيكون حكماً بمثابة مغامرة انتحارية تضع البلد أمام خطر تنفيذ التهديدات الاسرائيلية والاميركية، التي لن تُعبر نتائجها التدميرية عن معادلات توازن القوى المختلة لمصلحتهما، والتي يزيد من فداحتها تصنيفهما للحزب تنظيماً إرهابياً.
لكن الأخطر على لبنان، كان وسيبقى قائما في الطبيعة العدوانية للكيان الاسرائيلي، وفي السياسات الاميركية حيال بلدان المنطقة كيانات ودول وشعوب، ولبنان في المقدمة منها. وهو الخطر الذي يضع جميع اللبنانيين بمن فيهم حزب الله قيادة وتنظيماً وجمهوراً، أمام تحدي تفادي الانزلاق نحو الحرب، أو الوقوع في فخ الاستدراج للمشاركة فيها، من أجل تصفية الحساب مع البلد ومعه في آن. مع لبنان لأنه انفرد طويلاً في احتضان المقاومة الفلسطينية المسلحة وتصدى للعدوان وقاوم الاحتلال، واسقط اتفاق 17 أيار للسلام مع اسرائيل، وأجبر جيشها على الانسحاب دون قيد أو شرط. ومع الحزب انطلاقاً من دوره في مقاومة الاحتلال والتصدي لاعتداءاته على لبنان، ونظراً لطبيعة موقعه ودوره في إطار استراتيجية النظام الإيراني، وما تنطوي عليها من تهديدات يمكن أن تطال اسرائيل، دون إغفال ملف السياسات الاميركية الحاشد بالاحداث الدموية مع لبنان والحزب في آن.
إن حماية لبنان من خطر الدمار كانت وستبقى مهمة وطنية بامتياز، وهي الاولوية التي تضع جميع المسؤولين اللبنانيين اليوم أمام امتحان عسير لوطنيتهم ولقدرتهم على الانتساب للمصلحة الوطنية اللبنانية، والمشاركة في تحمّل مسؤولية انقاذ البلد وشعبه وعدم التفريط بهما ودفعهما نحو مصير مجهول. كما هو حال سوريا والعراق واليمن و.. التي تتهددها مخاطر زوال كياناتها الوطنية، وإعادة رسم خرائطها، باعتبارها بلدان انهارت دولها ومؤسساتها وجرى تفكيك مجتمعاتها. هذا عدا الدمار الذي حل باقتصادتها وعمرانها. وهي تتشكل راهناً سلطات أمر واقع على مناطق نفوذ طائفي وعرقي متنازع عليها. فيما الشعب الفلسطيني يضحي بحياة ابنائه ودماء أطفاله يحدوه أمل تحقيق حلمه في أن يكون له وطن ودولة على أرضه.
وإمام الأخطار التي تهدد لبنان اليوم، فإن المسؤولين اللبنانيين جميعاً، وبصرف النظر عن انتماآتهم الطائفية والمناطقية وحزبياتهم الفئوية الضيقة، مطالبون بالتخلي عن سياساتهم وممارساتهم، التي قادت البلد إلى ما هو عليه راهنا. وعدم استسهال التلاعب بأوضاعه، أو تكرار المغامرات التي لم يجن منها لبنان سوى الدمار والخراب. إنهم اليوم أكثر من أي يوم آخر أمام مسؤولية القيام بواجباتهم الدستورية والوطنية. بدءاً من الاولوية التي تتقدم كل ما عداها، وهي إنتخاب رئيس للجمهورية يوحد اللبنانيين، ويتولى مسؤولية الاشراف على إعادة بناء مؤسسات الحكم، والعمل لاستعادة الدولة وتفعيل إداراتها وأجهزتها.
كما وأن اللبنانيين جميعاً، مطالبون اليوم بعدم الاستهانة بما يجري راهناً، وأخذ الأخطار التي تهدد البلد على محمل الجد من الموقع الوطني اللبناني الجامع. إن المسؤولية الوطنية تستدعي التخلي عن الاوهام وعدم الهروب أو الاستقالة من المسؤولية، والاقلاع عن المزايدات الرخيصة والتحريض الأعمى.
نعم إن وطناً كلبنان، تتهدده الأخطار، ويتنازع حكامه تقاسم السلطة والدولة ويتبادلون تهم الخيانة، لن يخلصه الانتظار من الخراب والدمار، ولن تحميه المغامرات من الاحتلال. إن وطناً لا ينقذه أبناؤه ولا يدافعون عنه محكوم بالزوال. إنه التحدي الداهم قبل فوات الأوان. إنها دعوة للتلاقي من أجل تجميع القوى لمحاصرة المسؤولين وإجبارهم على القيام بواجباتهم كي يبقى لبنان على خارطة دول المنطقة.