مواقع التواصل الاجتماعي… منصات لخطاب الكراهية

بقلم جمال حلواني

تمكنت الحداثة من مدخل التكنولوجيا الحديثة ان تجعل العالم اكثر انفتاحاً بين البشر من خلال شبكات الاتصال والتواصل. وهو امر جدير بالتقدير والحذر في آن. فقد جعلت حرية التعبير وإبداء الرأي وتقديم الافكار وتوفير المعلومة متاحة مجاناً للجميع عبر الإنضمام الى منصات التواصل الاجتماعي المتعددة:” فايس بوك، واتس اب، إنستغرام” بالإضافة إلى منصة “إكس” التي تبقى الاكثر رواجا لدى المهتمين راهناً.

لقد شكلت هذه المنصات مساحة مفتوحة ادخلت البشرية في تحدٍ دائم، حول امتلاك المعلومة، ونشر المعرفة وحرية الراي والتقارب بين الشعوب، والمساهمة في عملية الانتاج والحركة الاقتصادية العالمية، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى فقد استُغلت هذه المواقع، وتحولت إلى منصات لنشر الكراهية والحقد والعنصرية والتطرف، وهذا ما تشهده المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع اللبناني بشكل خاص.

إن الاستخدام السلبي لهذه المواقع في الحياة السياسية والمجتمعية اللبنانية واضح وجلي، خاصة منصات الاحزاب والتيارات والاندية السياسية، التي تستخدمها لنشر افكارها وثقافتها وتوجهاتها السياسية وما تقوم به من أنشطة متنوعة. ويضاف لها المواقع الاخبارية الالكترونية التي غزت ميادين الصحافة والكتابة والاعلام. وكان لبعضها الدور الابرز في تأجيج خطاب الحقد الأعمى والكراهية. في الغالب تتولى مجموعات من “الجيوش الالكترونية” ادارة المنصات التابعة لقوى السلطة السياسية واحزابها التي تشرف عليها وتمولها. وبعضها تموله جهات خارجية وهو يخدم أهدافها ومصالحها السياسية.

وبقدر ما عكست هذه المنصات الصورة الحقيقة للإنقسامات الاهلية بين اللبنانيين، بقدر ما ساهمت في تصعيد وتيرتها، وفي تعميم الخطاب المذهبي عبر استغلال أي حدث سياسي يشهده البلد. في عام 2005 وفي اعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخلال ما سمي بثورة الارز وإعلان تحالف 14 اذار، ورغم مظاهر الوحدة الوطنية الشكلية، جاء الرد من تحالف 8 اذار يحمل شعارات فئوية تحريضية. وعليه، شهدت العاصمة بيروت اعنف المواجهات المذهبية على صعيد الخطاب السياسي. كما شكلت عودة ميشال عون محصناً بخطابه الفئوي تحت راية الدفاع عن حقوق المسيحيين، وتحالفه مع حزب الله، ذريعة لموجة من العداء المتبادل مع المكونين السني والدرزي، مثلت تصعيدا خطيرا في الخطاب الطائفي الذي حملته تلك الوسائط.

ولا يختلف عن ذلك حملات التحريض التي شهدها البلد أثناء حرب تموز2006، وغزوة السابع من ايار 2008 وتظاهرة القمصان السود، التي انتهت بمصادرة القرار السياسي والاطباق على مؤسسات الدولة. وهو ما واكبته منصات التواصل في اطارالمواجهة ونقل الخلاف إلى الشوارع والساحات، لتكريس هيمنة الطرف الاقوى وفرضه شروطه على الاطراف الاخرى بقوة الأمر الواقع. وخلال تلك التحولات كانت منصات التواصل تواصل تأجيج حالة العداء وتعميم تهم التخوين والتحريض على القتل.

وعلى وقع صراعات قوى المحاصصة الطائفية التي طالت كل مرافق الدولة ومؤسساتها على امتداد تلك الفترة، ورفض قوى السلطة معالجة ما انتجته من أزمات وما رافقها من نهب وسطو على عوائد الدولة، قامت انتفاضة 17 تشرين 2019. التي شكلت اهم محاولة مجتمعية لإنتاج قيم وطنية مشتركة، تُمكّن اللبنانيين من العبور فوق حسابات احزاب الطوائف ومواقعها وممارساتها وثقافتها، ومحاولة التخلص من رواسب الحرب الاهلية وما حملته من نتائج خطيرة كان لها انعكاستها السلبية على مؤسسات وبنية المجتمع.

ومع الانتفاضة تشكلت مئات المجموعات، التي انخرطت في معمعة لا نهاية لها من الحوارات والنقاشات وإعلان المواقف وبرامج وشعارات التغيير. وشكلت وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة “غروبات الواتس اب” و”الفايسبوك” منصات اعلامية للتعبير عن مواقف وشعارات وطموحات تلك المجموعات، ونشر اخبار محاولاتها لتشكيل أطر تنسيق وجبهات وائتلافات في ما بينها. لكن القاسم المشترك لدى الغالبية منها كان تبادل والاتهامات ورفض الآخر. ساهم ذلك في تكريس التشرذم بين المجموعات وفي تعزيز خطاب الكراهية والحقد ضد الآخر. وأفسح المجال لسيادة اليأس حول إمكانية تجاوز الانقسامات الطائفية، بقدر ما ساهم ايضاً في تعميق الفئوية وفي تعميم ثقافة الأنا” التي لا ترى الآخر وتختزل المجتمع.

هذا ما عكسته لوائح المرشحين في الانتخابات النيابية، وأكده نجاح قوى السلطة التي تصدت للانتفاضة. وهذا ما جعل شعارات التغيير تفقد بريقها وأن يعود اليأس لجمهور الانتفاضة. وما زاد الطين بلة، أداء نواب “التغيير” الذين فازوا بمقاعدهم النيابية بإسم الانتفاضة. لأنهم فشلوا رغم مرور ما يقارب عامين على انتخابهم، في تشكيل كتلة نيابية تجمعهم للتعبير عن الحد الادنى من احلام وطموحات من انتخبهم. وغاب التنسيق فيما بينهم حول بعض القضايا العامة. ومع تراجع الرهان عليهم، تحولت اللقاءات النادرة بين بعضهن مادة تندر وتهكم تتناقلها وسائل التواصل لأنها عديمة الجدوى. وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن مواجهة قوى السلطة الطائفية ليست بالأمرالسهل، وأن التغيير صعب.

لقد ساهم الانهيار العام الذي أصاب البلد من الاقتصاد الى السياسة ومنظومات القيم، في تموضع اركان وأحزاب السلطة حول مصالحها، رغم انصياعها للطرف المهيمن على البلد وقراره السياسي والأمني.. لكنه ساهم ايضاً في ارتفاع وتيرة خطابات الكراهية من الجميع، وضد الجميع. وكان الابرز هنا ما عبرت عنه قوى الطائفتان السنية والشيعية بحق بعضهما من “ردح”، وما ماثله بين قوى الشيعة والموارنة، وبقية الطوائف التي تتصارع على الدنيا فتستحضر المقدس لتحتمي به.

وقد تجلى ذلك من خلال مواقع و”غروبات الواتس اب” و”الفيس بوك” التي ساهمت في تسعير الخطاب الطائفي. وهي المواقع التي يديرها “الذباب الالكتروني” لاحزاب الممانعة التي تدعي احتكار الوطنية وترفض المساءلة والنقاش والحوار بكل اشكالهما. والتي تنظم حملات التحريض الجماعي ضد الآخر وعلى نحو مطلق، من أجل شد العصب الطائفي لما يسمى البيئة الحاضنة لها. وهي الحملات التي بلغت احيانا كثيرة مستويات غير مسبوقة في تعميم ثقافة الكراهية والحقد، كما في استسهال اطلاق تهم الخيانة والصهينة والعمالة، والتهديد بالتصفية الجسدية وهدر الدم.

اما الشوارع الطائفية الأخرى، التي تجاهر بخيارات قواها ومجموعاتها الرسمية أو المقنعة، والتي تكرر الهروب من المسؤولية عن تعثر التجربة اللبنانيية، وإحالتها على الطرف الآخر، والتحصن بمقولة: “لقد جربنا الشراكة مع المسلمين أكثر من مائة عام، ولم نستطع العيش سوياً، كوننا بيئة متقدمة ثقافيا واجتماعيا عن هؤلاء البدو. لذلك لا داعي للبقاء في أحضان وطن معاق لا يمكنه الاتفاق على خيارات موحدة”. وذلك من أجل تبرير وتسويق شعارات وتوجهات سياسية انقسامية، مثل: اللامركزية الإدارية والمالية، والفدرالية والكيانات المناطقية، وصولا الى تقسيم العاصمة ومجلسها البلدي. يستوي في ذلك احزاب وتيارات رئيسية، أو الأطر والمجموعات التي ترفع الراية السيادية أو التي تدعو لحماية المسيحيين. في المقابل تخبو شعارات إعادة الاعتبار للدولة ومؤسسات وأجهزتها وقواها النظامية من جيش وقوى أمن. والملفت في ذلك ان تلك الشعارات تتشاركها قوى ترفع الراية السيادية أو متحالفة مع حزب الله وأخرى معادية له لأنها ترى فيه احتلالاً ايرانياً. وعليه يحتدم الردح عبر وسائل التواص ومنصات الجيوش المتصارعة على احتلال عقول اللبنانيية وتشوية وعيهم لقضايا البلد ولحقوقهم ومصالحهم ومصيرهم في آن.

في ظل هذا المناخ تتكدس الاخطار على لبنان. سواء تلك الزاحفة من الجنوب عبر التهديدات الاسرائيلية بتدمير البلد بذريعة معركة “مساندة غزة” التي قررها حزب الله متجاهلاً مخاطرها ورفض اكثرية اللبنانيين لها. أو المتفجرة في الداخل، على رافعة التحضير للاحتفال بالحرب الأهلية هذا العام، وتبادل تمجيد أدوار قواها الطائفية واستعادة شعاراتها ورموزها في إطار التعبئة والتحشيد لجمهورها، والمساهمة في استحضار ما جرى في سياقها من مجازر وعمليات قتل وخطف وتهجير وتدمير نفذتها قوى الحرب الأهلية. والنفخ فيها لرفع مستويات التحريض الطائفي، كما هو الحال راهنا مع الحملة التخوينية السافرة ضد البطريرك الراعي، وما سبقها من حملات مشابهة طالت رموز دينية أخرى. ما يعكس مستوى الانحطاط الذي بلغته لغة التخاطب الأهلي لدى ميليشيات “الذباب الاكتروني” للأحزاب الطائفية السلطوية.

أمام هذا الواقع، تبقى الحاجة لأن تشكل مناسبة اندلاع تلك الحرب، محطة لإعادة قراءتها ومراجعة ما كان فيها من شعارات وبرامج وممارسات واستخلاص دروسها اخطائها والسعي لعدم تكرارها. وهو ما يشكل المدخل الوحيد لتجاوز الانقسامات الموروثة والاقلاع عن الارتهان للخارج واوهام الاستقواء به. والعمل على ا نتاج وصياغة خطاب ديمقراطي مستقل يعكس ما هو مشترك من مصالح وطموحات وحقوق وواجبات بين اللبنانيين مدخلاً لاعادة الاعتبار إلى دولة القانون والمؤسسات. لأنه الهدف الوحيد الذي يستحق العمل والكفاح من أجله لأنه الضمانة الوحيدة كي يبقى لهم وطن، في ظل ما تشهده المنطقة من توترات وصراعات سياسية وأهلية وحروب مدمرة تهدد مصير بلدان المنطقة. إن ما يحتاجه لبنان الآن خطاب يطمئن اللبنانيين ويفتح الباب لحوارات جادة قادر على اختراق جداران التعصب والانغلاق، تمهد الطريق لمعالجة المعضلات المستفحلة التي نأمل ان يتخطاها اللبنانيون، كي نصل معاً وسوياً لانقاذ لبنان وفتح آفاق التغيير الديمقراطي المنشود.

اخترنا لك