دعم أميركي لعدوان يتجاوز لبنان إلى المنطقة : أين حدود عملية “سهام الشمال” الإسرائيلية ؟!

بقلم زهير هواري

حتى كتابة هذه الاسطر قبل ظهر الأربعاء كانت العملية العسكرية الإسرائيلية البرية جنوباً بطيئة، فضلا عن أن الأضواء قبلاً ظلت مسلطة على عمليات القصف الجوي التي استهدفت ضاحية بيروت وعشرات القرى والبلدات والمدن الجنوبية والبقاعية. ثم لم يلبث أن طغى عليها الحدث الأكبر بما هو القصف الإيراني بالصواريخ البالستية الذي استهدف تل ابيب والقدس والعديد من المدن في الكيان الإسرائيلي، وما رافقه من تصريحات ايرانية وإسرائيلية وأميركية وغيرها.

على أن هذا وذاك لا يقلل من أهمية التوجه الإسرائيلي نحو تنفيذ عملية برية “مركزة ومحددة” كما أعلنت القيادة العسكرية على الحدود مع لبنان. وقد أتبعت ذلك ببث أشرطة فيديو عن تقدم جزئي لقواتها على الحدود لم يتعد الـ 500 متر، وأنه أمكنها خلاله الدخول إلى الانفاق التي سبق وأقامها حزب الله انطلاقا من القرى الحدودية، حيث عثرت على كميات من الأسلحة والذخائر والتجهيزات التي سبق وأعدها الحزب لتجاوز عوائق خط الجبهة واحتلال مستوطنات في الشمال. ففي الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، أعلن الجيش الإسرائيلي عن بدء عملية أطلق عليها اسم “سهام الشمال”. الاعلام الإسرائيلي ومعه كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين قدموا لأنباء الهجوم بأنه يستهدف إعادة مستوطني الشمال البالغ عددهم قرابة الـ 100 ألفاً الى مزارعهم وأشغالهم بعد أن غادروها منذ عام. وأن المنطقة المرشحة للاحتلال تتراوح بين 5 – 11 كلم جنوب نهر الليطاني، وتضمن تنفيذ قرار مجلس الامن رقم 1701 الذي ينص على منع الظهور المسلح جنوب الليطاني الا لقوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني. وأن إسرائيل حاولت ومعها العديد من الدول تنفيذ القرار سلما وبالوسائل الدبلوماسية من خلال الوسطاء، وعند ما فشلت المحاولات المتكررة على هذا الصعيد نتيجة رفض حزب الله التراجع، كان لا بد من اللجوء إلى الوسائل العسكرية. وذلك من أجل عودة الأنشطة المدنية إلى منطقة الشمال ودفع الحزب إلى الوراء، وبالتالي منعه من اطلاق الصواريخ القصيرة المدى على المواقع العسكرية والمستوطنات السكانية. ومن شأن عودة المستوطنين إلى مستوطناتهم أن يريح إسرائيل من عبء الانفاق على إسكان هذا العدد من المهجر الذين تمَّ اجلاؤهم عنها، وتحريك الاقتصاد الصناعي والزراعي والتجاري والسياحي وعودته إلى دورته الطبيعية. ولكن ما تبين لاحقاً من خلال محاولة قوات النخبة والكوماندوس الاسرائيلي اجتياح الجنوب انطلاقا من القرى الملاصقة أن ثمن الطموح إلى التقدم سيكون فادحاً، بدليل أن عشرات الجنود والضباط سقطوا قتلى وجرحى، ما دفعهم للعودة بهم مصابين على حمالات في الطائرات المروحية وسيارات الاسعاف، دون أن يعني ذلك نهاية العملية.

تجهيز مسرح العدوان

في نطاق الاستعداد لتنفيذ الهجوم سلطت إسرائيل نيران أسلحتها على القرى الحدودية الملاصقة للشريط الحدودي والخط الأزرق، ثم ما لبثت أن وسعت من نطاق اعتداءاتها لتضم إلى القرى والبلدات التي سبق ودمرتها قرى وبلدات الخط الثاني المواجه. وخلال استعداداتها حشدت إسرائيل ثلاثة فرق عسكرية من أسلحة المشاة والبر مع عدد من الألوية وقوات الاحتياط، وبعضها جرى سحبه من قطاع غزة والضفة الغربية، ناهيك عن سلاح الجو والمسيرات.

وعليه بات المسرح جاهزا لتنفيذ الهجوم الذي ترافق مع رفع وتيرة الغارات الجوية التي تستهدف عمق المناطق بما فيها الضاحية الجنوبية ومدن النبطية وصور وصيدا وتبنين وبنت جبيل وبعلبك وغيرها، ما قاد إلى تهجير سكاني واسع تجاوز المليون مواطن. وقد استندت إسرائيل في توجهها نحو الاجتياح البري إلى “الإنجازات” العسكرية والاستخباراتية التي سبق وقامت بتحقيقها من خلال الهجمات السيبرانية والاغتيال بواسطة الغارات الجوية التي تعرضت لها قيادات وكوادر حزب الله والمقاومة الفلسطينية، والتي بلغت ذروتها في اغتيال أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله، وتدمير الكثير من مراكز ومواقع ومؤسسات الحزب.

إذن كان من الواضح أن التوغل على الأرض من خلال الهجوم البري سيكون استكمالا لما يحاوله الجيش الإسرائيلي من تدمير البنية البشرية وما أرسته من منظومات قتالية خلال السنوات السابقة، وكذلك البنية التحتية التي تكفل الهجوم الجوي بتولي مهمة دكها وتسويتها بالأرض. وكان من المعلن أنّ هذه العملية البرية تتمّ وفق “خطة مرتّبة تمّ إعدادها في هيئة الأركان العامة وفي القيادة الشمالية والتي دربت القوات على تنفيذها على مدار الأشهر الأخيرة”. وقد “تمّت الموافقة على مراحل الحملة، بموجب القرار الذي اتخذه المستوى السياسي”. كما أعلن المسؤولون الإسرائيليون.

حقيقة مهمة العدوان

إذن جرى تقديم الحملة على أنها مركزة ومحدودة الأهداف، وأنها تصب في اطار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ومواطنيها، وأن هدفها المباشر هو إرجاع حزب الله إلى شمال الليطاني وتنفيذ القرار رقم 1701، وأن جيشها لن يتجاوز ذلك نحو مدن الجنوب الرئيسية: صور وبنت جبيل والنبطية وصيدا، ناهيك بأنه لا ينوي الوصول إلى بيروت. وعلى الرغم من إشاعة مثل هذه المناخات كانت تتكشف الأهداف الفعلية لإسرائيل، وفي مقدمها تدمير البنية السكانية لأهل الجنوب. وعلى هذا الأساس جرى توجيه الإنذارات المتتالية لعشرات القرى والبلدات والاحياء لمغادرة بيوتهم، ومناطقهم التي ستتعرض للتدمير بذريعة أنها تضم مستودعات أسلحة ومراكز أنشطة للحزب. لكن ما تكشف كان أكثر وضوحاً.

فمن المعروف أن إسرائيل لم تخرج بعد من الوصمة التي أصابتها نتيجة حرب الإبادة التي نفذتها في قطاع غزة، وعليه بدت حذرة في الاستهداف العشوائي الذي مارسته طوال أشهر في مخيمات ومدن القطاع، وأدى إلى أكثر من 50 ألف شهيد و90 ألف جريح وألوف المفقودين وتدمير لم يسلم منه أي مرفق. ما قاد إلى تحول في الرأي العام الدولي لصالح فلسطين وقضيتها. لذلك حاولت في لبنان ممارسة اللعبة الطائفية من خلال استهداف “البيئة الحاضنة” لحزب الله – أي الطائفة الشيعية – وتحييد سواها. كذلك عدم المس بمرافق ومؤسسات الدولة اللبنانية بما هي المطار والمرفأ وما تبقى من محطات كهرباء وماء وجسور ومواقع وزارات ومؤسسات وما شابه كما فعلت في عدوان العام 2006. وذلك بناء على تعهدات تقدمت بها لكل من اميركا وفرنسا وبريطانيا.

رغم هذا كله كانت الوقائع تذكِّر وعلى نحو جلي بما شهده لبنان في خلال غزو العام 1982، عندما أعلن رئيس الوزراء بيغن ووزير دفاعه شارون أن هدفهما هو فقط حماية منطقة الجليل، ويتحقق ذلك بمنع قذائف الكاتيوشا من الوصول إلى أهدافها، فإذا بقواتهما تندفع نحو صيدا ثم بيروت وتحاصرها على مدى أكثر من 80 يوما قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق رعاه المبعوث الأميركي فيليب حبيب، وخرج بموجبه المقاتلون الفلسطينيون من لبنان، وتولت قوة متعددة الجنسيات مسؤولية الحفاظ على أمن المخيمات والمدنيين من فلسطينيين ولبنانيين. وكان ما بعدها مما هو معروف عن مجزرة صبرا وشاتيلا وما شهده الجبل من عنف وتهجير.

نحو دولة إسرائيل الكبرى

خلال اليومين اللذين باشرت إسرائيل فيهما “سهام الشمال”، أقدمت القوات الاسرائيلية على محاولة التقدم ففشلت وخسرت عددا لا يستهان به من نخبتها، ولكنها تابعت استكمال تفريغ القرى اللبنانية الملاصقة للخط الأزرق من سكانها، وإقامة منطقة عازلة مع لبنان باعتباره مجرد مقدمة لما يجري التخطيط له. ثم لم يلبث المسؤولون الإسرائيليون أن أفصحوا حتى قبل أن تحقق قواتهم المزيد من التقدم، أنهم لن يوقفوا اطلاق النار قبل أن يسلم حزب الله سلاحه. إذ من السهولة بمكان القول أن تراجع حزب الله إلى شمال الليطاني لن يمنعه من اطلاق الصواريخ على مستوطنات الشمال الملاصقة للحدود مع لبنان وما بعدها.

ما يعني أن أمن المستوطنات لا يتحقق الا بسحب وتسليم سلاح الحزب، خصوصا وأن مدى الصواريخ يمكن أن يحقق الرماية من آخر الحدود اللبنانية في عكار وما بعدها حتى. وفي غضون هذه المناخات كانت المعلومات تتلاحق حول نية القوات الإسرائيلية الوصول إلى الهرمل في شمال البقاع عبر اختراق بري ينطلق من الجولان ويحاذي سلسلة جبال الشرقية في الأراضي السورية، ويقود في المحصلة إلى فصل الجنوب عن البقاع بعد التوجه غربا من قضاء راشيا إلى مشغرة. ثم إن المعلومات الميدانية أظهرت أن الحشود العسكرية لن تقتصر على القطاعين الشرقي والاوسط، بل أن عددا من الألوية ستنطلق من القطاع الغربي لتتجه نحو احتلال الخط الساحلي الذي يقود إلى صور وصيدا فشمالا نحو بيروت. وبالتأكيد فحشد هذا الكم من القوات مع سلاحها لا يعني بأي حال من الاحوال عملية عسكرية “محددة ومركزة ومحدودة”.

ومثل هذه السياسة المتدحرجة لها تراثها في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، فالسيطرة والضم هي حيث يصل جيش الاحتلال. وتتميز هذه السياسة أنها تحظى هذه المرة أيضاً بموافقة ودعم أميركي واضح كما يتبين، فالاساطيل والبوارج والطائرات الأميركية التي ترابط في البحر المتوسط والخليج العربي والبحر الأحمر هدفها الدفاع عن إسرائيل في حالي الهجوم والدفاع. والمساهمة في ما يصفه نتنياهو دعم “محور الخير- النعمة” في مواجهة “محور الشر- اللعنة”، وبالتالي تسريع عملية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد. ويتبين أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، أعلن أنه اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت على “ضرورة تفكيك البنية التحتية على طول الحدود لضمان عدم شن حزب الله هجمات”. وقال: “أوضحت لنظيري الإسرائيلي أن الولايات المتحدة تدعم حق بلاده في الدفاع عن نفسها”. وادعى “عزم” أميركا على “منع أي جانب من استغلال التوتر أو توسيع الصراع”.

ونقلت وكالة “أسوشيتد برس” عن مجلس الأمن القومي الأميركي، أن “عمليات إسرائيل المحدودة في لبنان تندرج ضمن حقها في الدفاع عن النفس”، لافتاً إلى أن “التوسع في مهمة إسرائيل بلبنان قد يكون خطيراً، وسنبحث ذلك مع الإسرائيليين”.

إضافة إلى إدّعاء حق الدفاع عن النفس، هناك محاولة اميركا التعمية الدائمة على حقيقة الأهداف الإسرائيلية، خصوصاً وأنها على أبواب المواجهة الانتخابية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ثم هناك علاقات اميركا بالدول العربية والأوروبية، ولكليهما مواقف تختلف عن الموقف الأميركي إزاء القضية الفلسطينية ولبنان. لذلك ليس من المستغرب أن يُلاحظ أن اميركا التي تعلن دوما عن رغبتها بحل دبلوماسي، تدعم إسرائيل في حروبها سواء في قطاع غزة أو جنوب لبنان.

ويتضح أن التباين بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي هو من لزوم إدارة الصراع، ولا يمنع من مواصلة تقديم الغطاء السياسي والمساعدات المالية وتزويدها بأحدث وأشد أنواع الأسلحة فتكاً. ففي الواقع تدعي واشنطن أنها ترغب في حل دبلوماسي، لكنها في الوقت نفسه تدعم هدف إسرائيل في حربها على حزب الله وحماس والشعبين الفلسطيني واللبناني وايران بالتأكيد. ثم إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن غير مرتاحة لتأييد حملة إسرائيل بلبنان علنا وعلى “رأس السطح”، وبشكل كامل، خشية حرب شاملة لا تريدها من جهة، خصوصاً في هذا الوقت الحرج من جهة ثانية، حيث أصوات الجاليات العربية والمسلمة مؤثرة في حسابات المعركة الانتخابية.

اختصارا يمكن القول إنها معركة في سياق حروب هدفها تغيير وجه المنطقة، وبالتالي انتاج نظام إقليمي جديد رفع نتنياهو إحدى صوره في الأمم المتحدة، وبهدف ربط دول المنطقة باتفاقات ومشاريع مع إسرائيل، ما يعني أن هذا النظام الذي يتم العمل على إنتاجه ستكون فيه إسرائيل هي الدولة الأقوى والقائدة لتحركاته. هو نظام إقليمي يدار اميركيا، أما رأسه ودماغه المقرر في المنطقة فهي إسرائيل، ما يكفل محو القضية الفلسطينية من الوجود وسحق شعب فلسطين وتبديد من يتبقى منه، وكذلك اعتبار أشلاء وأجزاء الكيانات والدول العربية مجرد زوائد ملحقة بإسرائيل باعتبارها المركز. إن تعريض حزب الله للضربة الاسرائيلية القاضية هو في المقام الأول ضربة قاتلة إلى إيران على مستوى المنطقة. ولطالما هدد الإسرائيليون بضرب المشروع الإيراني أو تفكيك ايران نفسها. إنها الضربة الكبرى التي يريد نتنياهو استثمارها إيجاباً لصالحه وسلبياً تجاه الدول والقوى الأخرى خصوماً وحلفاء. ما يعني أن هذا الطموح الايراني وتابعه الاسرائيلي سيفتح مسلسلا من الحروب والانفجارات التي لا تتوقف إلا لتعاود الاشتعال. وستصيب بشظاياها ليس الكيانات والدول فقط، بل المجتمعات أيضاً والبنى السكانية كما يظهر ذلك مع شيعة لبنان الآن. وهي بالتأكيد، ستطال ساحات عدة متنوعة، فمن قال إنها ستقتصر على بلادنا وعلى احدى مكوناتها فقط، وتنجو منها باقي الدول العربية وسائر مكونات منطقة الشرق الاوسط بأسرها ؟!.

اخترنا لك