بقلم غسان صليبي
أشعر بتقدير خاص للبابا لاوون وللبابا فرنسيس الذي سبقه، ولاسيما لمواقفهما المناصرة للفقراء وللعدالة الاجتماعية، والمتقبّلة بإحترام وبدون تعاطف فوقي للذين يعتبرهم المجتمع “شاذين” في الرأي او في السلوك.
لا أعرف كيف سيكون تأثير زيارة البابا على اللبنانيين عموماً. ما اعتقده هو أن البابا لاوون وجد صعوبة في كلماته كما في اختيار لقاءاته، في خرق الطوق الذي بناه رجال الدين والسياسة والمال والسلاح من حوله. لقد تمكنوا من تكثيف حضورهم ومن تصدر محطات الزيارة جميعها. وبدا وكأنه يباركهم كلما رسم إشارة الصليب أمامهم. حتى اللقاء مع الشباب جرى تأطيره بشكل لا يبرز النزعات التغييرية، الكنسية والسياسية والاقتصادية، عند الشباب اللبناني. فبدا الشباب وكأنهم متصالحين مع السلطات التي تحكمهم، رغم تذمرهم من الواقع المعاش.
تعامَلَ البابا مع هذا الواقع بدبلوماسية لم نعهدها في رسالته الأولى “في محبة الفقراء”. تكلم عن قلة تحكم العالم، ولم يشر الى القلة التي تحكم لبنان. تكلّم عن مساعدة الفقراء، ولم يشر الى ان اكثرية الشعب اللبناني دون خط الفقر مما يتطلب تعديلا جذرياً في السياسات الاقتصادية والمالية التي أُتبعت حتى الآن، والتي تتماشى مع ما انتقده بشدة في رسالته عن الفقراء. تكلّم عن دور الكنيسة في المجال الاجتماعي، لكنه لم يشر الى ثراء الكنائس المسيحية والى علاقتها بالفقراء كفئة هامشية تحتاج الى مساعدة، وليس كجماعة اساسية يجب أن تشكل قلب الكنيسة وسبب وجودها. “فالكنيسة لا تكون كنيسة يسوع ان لم تكن كنيسة الفقراء”، كما قال البابا فرنسيس الذي يمشي البابا لاوون على خطاه في الشأن الاجتماعي. مع الإشارة الى انه جرى التداول بأخبار صحافية تفيد ان البابا طالب بإصلاح السياسات الكنسية لكن في لقاءات مغلقة مع رجال الدين.
لم نسمع الا نادراً هذه النبرة العالية التي تهز الضمائر وتبرز التحديات بوجه رجال الدين والسياسة والمال والسلاح، والتي تستحقها هذه الدموع التي تساقطت من عيون الشعب اللبناني المقهور، الذي وقف ملوّحا له على الطرقات، مستجدياً الامل من نظراته. كلمات البابا، ولو انها استندت الى اقوال يسوع، كانت أقرب الى لغة رئيس دولة الفاتيكان أو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، أكثر منها الى لغة تلميذ يسوع، هذا المعلّم الذي دخل الى ساحة الهيكل غاضباً بوجه من جعلوا من بيت ابيه مغارة للصوص، والذي طالب تلاميذه بأن تكون كلمتهم “نعم نعم أو لا لا، وكل ما زاد عن ذلك فمن الشيطان”.
لغة البابا لم تختلف عند كلامه عن السلام. قال ان صانعي السلام يبادرون بكل شجاعة الى المصالحة. واجمل ما قاله هو أن لا حقيقة مطلقة عند احد، بل حقيقة نكتشفها ونتلمسها عبر المصالحة. ومن يقول ذلك هو البابا، المفترض ان يعتبر حقائق دينه هي الحقائق المطلقة. وقال أيضاً ان السلام يحتاج الى بلورة رؤية مشتركة للمستقبل، لا تصلح الا اذا أدت الى الخير العام. والخير العام هو نقيض المصالح الخاصة او الفئوية التي تحرك السياسة في لبنان.
واضح ان البابا أراد التركيز على السلام الداخلي بين الجماعات كما اسماها، ولم يشأ التطرق الى السلام مع الخارج، وتحديداً مع اسرائيل، لمعرفته ان المسألة هي موضوع خلاف بين اللبنانيين.
لكن بما انه اختار لزيارته شعار “طوبى لفاعلي السلام”، وهو يعرف ان اللبنانيين يترقبون حرباً اسرائيلية عليهم بعد مغادرته، كان من المؤمّل أن يقول شيئاً في العلن حول الموضوع، من مثل ضرورة وقف الاعتداءات الاسرائيلية، وحتى ضرورة التخلي عن السلاح في الداخل في سياق دعوته الى المصالحة. هنا أيضا لم يقل ذلك مباشرة امام الجمهور، بل من خلال تصريحات للصحف.
سأذهب أبعد من ذلك، وأضع شعار “طوبى لفاعلي السلام” في سياقه التاريخي، اي في ظرف كان يحتل فيه الرومان أرض فلسطين، وكان جزءٌ من اليهود يقاوم بالسلاح الاحتلال الروماني على هذه الارض، فيما كان يسوع، اليهودي في حينه، يدعو الى اللاعنف.
لا أعرف لماذا اهمل البابا الكلام عن يسوع اللاعنفي في معرض كلامه عن صانعي السلام، فيسوع كان يرفض ممارسة العنف حتى مع أعدائه. وقد طوّر تولستوي مجموعة من الأفكار حول هذا الجانب من شخصية يسوع ومن سلوكه، مما سمح لغاندي الى استخدامها وتطويرها مجددا على شكل ممارسات في المواجهة اللاعنفية نجحت في تحرير الهند من الاحتلال البريطاني.
لم يلتقِ البابا للأسف الا صانعي او مبرري حروب، صغيرة او كبيرة، فيما كان الأجدر به ان يلتقي هيئات المجتمع المدني الداعية لللاعنف، او التي انخرطت في نضالات لاعنفية دفاعا عن حقوق الناس او طلباً للتغيير على المستوى الاقتصادي والسياسي، وخاصة تلك التي شاركت في انتفاضة ١٧ تشرين او تلك التي وقفت ضد حرب ١٩٧٥، وضد الحروب الإخرى التي تلتها. فأمام هؤلاء وحدهم يصح قول معلمه “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون”.
كلما نظرت الى وجه البابا رأيت ابتسامة تحتبس دمعة. ربما كان تمكّن من ان يطلق سراحها لو انه سعى الى إطلاق سراح مشاعر الغضب التي تحتبسها قلوب اللبنانيين ضد الأخطبوط المربّع الأذرع الذي يتحكم برقابهم. فنداؤه للبنان بأن “قم وانهض”، لن يُستجاب له بدون التحرر من هذا الأخطبوط. فربما كان باستطاعة البابا، لو تكلم كتلميذٍ ليسوع، ان يساهم في تحرر اللبنانيين، أخلاقياً على الاقل، من الشعور بالذنب تجاه الانتفاض على من دمّر ماضيهم وحاضرهم وقد يدمّر مستقبلهم.