لماذا التحقيق مع أهالي شهداء مرفأ بيروت ؟

بقلم د. ميشال الشماعي

ما حصل في الآونة الأخيرة مع أهالي شهداء مرفأ بيروت إنّما هو عيّنة من العيّنات التي يذخر بها النّظام الأمني اللبناني. هذا النّظام الذي ورث مفاهيمه في العمل من الفكر البعثي الأمني السوري، ولكنّ اليوم الظروف لا تتشابه ليحصد هذا النّهج النتائج نفسها.

يجب التوقّف أمام أساليب العمل الأمني اللبناني هذه للتوصّل إلى كيفيّة درء هذا الخطر لأنّه قد يطال أيّ شخص بشري يعيش على امتداد ال 10452 كم2.

توقيف وليم نون شقيق الشهيد جو نون وتركه موقوفًا لدى جهاز أمنيّ بات الكلّ يعلم أين أمرته الحقيقيّة ليس بسابقة في لبنان. فهذا شهدناه في الماضي القريب، وعانينا منه كلّنا. واليوم التحقيق مع الأهالي هدفه واحد وهو التطويع والتطبيع مع القاتل. تمامًا كما حدث مع مجموعة منهم في السنتين اللتين انقضتا على هول هذه الجريمة، حيث باع بعض منهم كرامته ودماء أولاده مقابل البقاء. ولكن أيّ بقاء هذا؟ على دماء أولادهم!؟ إنّها فعلاً آخر الدّنيا.

لكن لا. يتساوى النّاس كلّهم في الكرامة الإنسانيّة إلّا انّ مَن يقرّر ان يبيع كرامته فيفقد أهليّة المقارنة مع ذويه. والأعذار كلّها مرفوضة في هذه الحالة. من هنا بالذات، نفهم إصرار هؤلاء على كشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت. وهذه الحقيقة لن تعيد فلذات أكبادهم لكنّها ستبلسم هذا الجرح ولن تتركه نازفًا إلى ما لا نهاية. وكلّما تمسّك اللبنانيّون بالوصول إلى هذه الحقيقة يدقُّ مسمار في نعش هذه السلطة.

وقوّة هذه المجموعة بالذات تنبثق من خلفيّة سياديّة نجحت بأن تقود حوارًا بينهم على اختلافهم. على اللبنانيّين جميعهم أن يتّعظوا من هذه المجموعة التي تمثّل وجعهم من دون أيّ تفرقة. وليطمئنّ اللبنانيّون كلّهم، على اختلاف مشاربهم، التاريخ لن يعود إلى الوراء لأنّ الحقيقة في المستقبل أكثر إنباءً من الماضي. وكشف الحقائق التي مضت تكشف صورة المستقبل الغامض أكثر فأكثر.

النّظام الأمني انقضى إلى غير رجعة ولن يعود. قضيّة 4 آب وحّدت اللبنانيّين كلّهم. حتّى اولئك الذين غلب السلاح أمرهم، قلوبهم تنضح غضبًا ووجعًا على الذين فارقوهم. وعاجلاً أم آجلاً صوتهم سيكون أصدق إنباءً من السيف المسلط على رقابهم.

وبوقوف هذه المجموعة من الأهالي بوجه هذا القضاء الذي سيّسته هذه السلطة هذا سيعطي دفعًا إيجابيًّا للقضيّة برمّتها. ولن يستطيع بعد اليوم هذا النّظام البائد أن يقمع عمل القضاء ليطمس الحقيقة.

إضافة إلى المواكبة السياسيّة اللافتة للأهالي في مسارهم النّضالي كلّه التي تجلّت بالمطالبة بلجنة تقصّي حقائق دوليّة لكشف حقيقة من تسبّب بمجزرة الرابع من آب/أغسطس. هذه المواكبة السياسيّة كفيلة بإعطاء الدّفع الايجابي لهذه القضيّة معطوفة على مواكبة شعبيّة وروحيّة تجلّت بأبهى لحظاتها بوقوف إمام جبيل مع كهنتها جنبًا إلى جنب في هذه القضيّة الانسانيّة. ناهيك عن صوت الضمير، صوت الوطن والإنسان، صوت بكركي التي قالت كلمتها ومشت ليمشي ” نون” معها إلى الحرّيّة.

هذا التحقيق مع الأهالي اصطدم بدماء أولادهم. فتحرّروا. ظنّت هذه السلطة انّها ستستطيع إسكاتهم وثنيهم عن متابعة قضيّة أبنائهم. والأبعد من ذلك، اعتقدت أنّ التحقيق مع الأهالي تحت وطأة إخضاعها للقضاء سيخيف الذين يدعمون هذه القضيّة من سياسيّين وروحيّين وحتّى النّاس العاديّين.

لقد تراجعت السلطة هذه المرّة أيضًا. وهذا لا يعدّ تراجعًا بل انكسارًا لها تمامًا عن كفّ يد المحقّق في انفجار المرفأ. ولن تتمكّن هذه السلطة من تمييع التحقيق أو تغيير المحقق أو تعيين قاضٍ رديف كما تحاول، لأنّ القضيّة باتت تحت مقصلة التدويل.

ولجنة التحقيق التي تزور لبنان في ملف الفساد المالي ستتبعها لجان أخرى، ستكون اليد العمليّة لكشف هذه الحقيقة. ولكنّ ذلك دونه شروط جوهريّة. حدّها الأدنى يكمن في استمرار هذه المواجهة، لأنّ هذه السلطة لن تتوانى عن ممارسة أعتى أنواع الضغوطات النفسيّة وحتّى الجسديّة لإحباط محاولة الأهالي في الدّفع لكشف حقيقة خسارتهم لأولادهم.

والمواجهة يجب أن تبقى مواكبة سياسيًّا وشعبيًّا وروحيًّا ليستطيع المجتمع الدّولي أن يلعب دوره إكرامًا لدماء الذين ذهبوا سدًى لأنّ مَن كانوا في سدّة المسؤوليّة، جميعهم كانوا يعلمون!

اخترنا لك