من شارل مالك إلى أنطوان نجم : أسس القضية اللبنانية

بقلم د. ميشال الشمّاعي

لا يمكن لأيّ شعب أن يبقى حياً إذا لم يكن هنالك قضية يحملها ويناضل في سبيلها. والشعب اللبناني شعبٌ حيٌّ لأنه يحمل قضية الوجود الحر في هذا العالم، وفي هذه المنطقة بالذات. هذا الوجود الذي نتج عن فعل الخالق فكان ما كان، وصارت الحرّيّة جوهر الوجود. أن تقول لبنان يعني أن تقول الحرّيّة. لذلك، قالها شارل مالك ذات يوم في كتابه “لبنان في ذاته”: يعني لبنان الحرية.

بلا حرية لا وجود للبنان. هذا الوطن ليس بعداً جغرافياً وحسب، بل بعد وجداني يرتبط بالضمير الإنساني الحر والحي. لذلك لم يكن يوماً لبنان بلا حرية. بذلك تحوّلت القضيّة من مجرد فعل وجود إلى حضور وتفاعل حر. أعني هنا بالذات الوجود المسيحي الحر الذي يتفاعل بحضوره مع الآخر المختلف. ومن هذه المسألة بالذات نشأت المؤامرة على هذا الوجود كما كان يراها الفيلسوف شارل مالك على حدّ ما أفصحه المفكر انطوان نجم في إحدى كتاباته عن شارل مالك في العام 2017: “…المؤامرة، في أبعادها البعيدة، هي فصلُ مسيحيّي لبنان عن مسيحيّي العالم الغربي، وضمهم إلى العالم الشرقي والاكتفاء بذلك. كل شيء له مغزى متوسطي – غربي – أوروبيّ – مسيحي – تحريري – إنساني لا يريده خصوم لبنان. لبنان حجر عثرة وشوكة، لأن عنده هذه الخصال. هذا مهم من الناحية الحضارية، وينبغي درس علاقاتنا الخارجية بشكل دائم”.

عندما سئل شارل مالك في تلك المرحلة عن إمكانيّة شغور موقع رئاسة الجمهوريّة علّق، “لا يجوز مطلقًا المجازفة، ولا يجوز التأخر في الإفادة منها إذا الساعةُ قدمت نفسها. أهمّ شيء هو توحيد الكلمة المسيحيّة وتوسيعها وتعميقها، وتقوية علاقاتنا الخارجيّة”.

وعن الموقف الدّولي من الشرعية قال الدّكتور مالك، “الموقف الأميركي – الأوروبي – الفاتيكاني تجاه الشرعية في لبنان هو موقف طبيعي. الشيء الموجود المعترف به دولياً هو الشرعية على ضعفها. إذا طارت هذه الشرعية ولم يحل محلها، بسرعة، شرعية أخرى، سيحصل فراغ في لبنان ومن أجل مسيحيي لبنان الشرعية ضرورية في الوقت الحاضر”.

أمّا الهدف الذي حدده مالك في ذاك اللقاء السري الذي عُقد بينه وبين الشيخ بشير الجميّل وسائر قياديي القوات اللبنانية في خلوة سرية في دير سيدة البير في المتن في 27 أيلول من العام 1980، فهو، “خلق وطن يضمن الأمن والحرية والعدالة والانفتاح لجميع الكيانات اللبنانيّة”.

من هذه التفاصيل التي أفصح عنها المفكّر أنطوان نجم تتضح معالم القضيّة اللبنانيّة التي تكمن في الأسس السبعة الآتية:

1ـ التصدّي للمؤامرة ضدّ مسيحيي لبنان وعدم السماح لأي مشروع سياسي بأن يفصلهم عن بعدهم الغربي مع الأخذ بعين الاعتبار العمق الحيوي الاستراتيجي الجيوبوليتيكي للبنان الـ10452 كم2.

2ـ درس العلاقات الخارجيّة بشكل دائم ما يؤمن حسن العلاقات مع الجوار والمحيط الحيوي بالكامل ومن دون أي استثناءات في العائلة العربيّة الواحدة. كذلك نسج أفضل العلاقات مع دول القرار إن كان في أوروبا أو أميركا أو آسيا. ولعل هذا ما يحتم بقاء لبنان الدولة على مسافة واحدة من الدّول جميعها. لن يضمن لبنان الدولة إلا الحياد الإيجابي والناشط.

3ـ الالتزام بمقتضيات الدّستور اللبناني واحترام المهل التي نص عليها والذي حدد من هو العدو ومن هو الصديق. إسرائيل عدو نهائي للدولة اللبنانيّة؛ والقضيّة الفلسطينيّة تأتي بعد القضيّة اللبنانيّة التي لا أولويّة تعلو عليها.

4ـ العلاقات المسيحية – المسيحية هي أساس اتزان وجودية الدولة اللبنانيّة، متى اختلت هذه العلاقات اختلت موازين الدولة اللبنانية بالكامل.

5ـ تقوية العلاقات المسيحيّة الخارجيّة حيث لا يمكن لمسيحيي لبنان ببعدهم الغربي أن يعيشوا بعزلة عن مرجعيتهم في الغرب أي الفاتيكان.

6ـ التمسك بالشرعيّة اللبنانيّة وعدم الإنجرار وراء مخطّطات التخلي عنها لأن الفراغ لن يكون لمصلحة المسيحيين بالتحديد. من هنا، ضرورة التمسّك بالشرعية كيفما كانت بانتظار تطويرها وتمتين أواصرها.

7ـ التوصل إلى نظام سياسي متطور يضمن حرية الكيانات اللبنانية المتعددة التي تشكل مؤتلفة الكيانية اللبنانية، مع المحافظة على حسن العلاقات مع العمق العربي الحيوي والاستراتيجي ضمن الحياد الناشط والإيجابي في الأسرتين الإقليمية ـ العربية والدولية.

هكذا بعدما أفصح المفكّر أنطوان نجم عن بعض ما دار في اجتماعاته السرية مع شارل مالك، نستطيع أن نستشفّ أسس القضيّة اللبنانيّة من فكر مالك، الذي رسم مستقبل لبنان لمئات ومئات السنين إن التزم اللبنانيّون بطروحاته النبوية. كيف لا وهو الذي قرأ ما يضمره اليهود لفلسطين والعرب في كتابه “اسرائيل أميركا والعرب نبوءة منذ نصف قرن”، وهو الذي كتب ما هو المطلوب من موارنة لبنان في مقاله “المطلوب الكثير الكثير من الموارنة” حيث تنبّأ لأنطوان نجم أيضاً بدورهم بسبب بقائهم على الرغم من كل ما عانوه من اضطهادات على مرّ التّاريخ. هذا الدّور الذي بحسب مالك سيعيدون بوساطته خلط مفهوم صراع الحضارات، حيث سيكونون بلبنانيتهم السمحة مبشّري مَن رفضوا المسيح الذي أتاهم أولاً. من هنا، “علينا أن ننشر روحَ المسؤوليّة. قلقَ المسؤوليّة. إرادةَ الاضطلاع بمسؤوليّة المسؤوليّة”، كما قال نجم. والخلاصة بعد معاناة هذا الوطن الذي يستحق الحياة ونستحق الحياة فيه: “الويل لنا إن سلّمنا ما استلمنا كما استلمنا”.

اخترنا لك