بين إدمان الهروب من المسؤولية وانتظار “فَرَج” التسويات الخارجية

بقلم زكي طه

لم يكن اللبنانيون بحاجة لانتظار جفاف حبر الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين، مطلع الشهر الحالي، للاحتفال به. لأنهم وعلى جاري عادتهم حيال أي لقاء أو اتفاق أو خلاف، إقليمي أو دولي متوقع أو مفاجئ، وقبل التدقيق بالدوافع الكامنة خلفه، أو معرفة النتائج المترتبة عليه، تجدهم جاهزون دوماً، لإطلاق مخيلاتهم بشأن انعكاساته على أوضاعهم المأزومة. هكذا كان دأبهم على امتداد تاريخهم الحافل بالأزمات. وهم الذين ادمنوا الهروب من مسؤولية البحث عن حلول لمشكلاتهم حيث هي. وانتظار ما يجود به الخارج عليهم من تسويات مؤقتة، لتنظيم نزاعاتهم المستدامة والحد من مضاعفاتها السلبية والمدمرة.

ولذلك لم يكن مفاجئاً أن يسارع اطراف السلطة ومعهم أكثرية اللبنانيين، ومن مواقع الانقسام الأهلي المختلفة، اطلاق عنان التحليلات والاجتهادات المتناقضة، حول ما ينتظرهم من الاتفاق السعودي الإيراني على نحو يتوافق مع رهانات كل منهم ورغباته. وهم في ذلك يصدرون عن اعتقاد راسخ، بأن الاتفاق وحيثيات حصوله ومضمونه وما سيترتب عليه، لم تتقاطع سوى لتلبية طلباتهم وخدمة مصالحهم وحل معضلاتهم، أو لتمكينهم من الفوز على بعضهم البعض، تحت راية إنقاذ بلدهم مما يواجهه من أخطار تسببوا بها عن عمد فيما هم يتنازعون على السلطة والمغانم في آن.

هكذا كان الأمر مع سائر الأطراف قبل أسابيع مع لقاء باريس الخماسي قبل توقيع الاتفاق، ومع اللقاء الثنائي السعودي ـ الفرنسي بعده. ولا تختلف عنها رهاناتهم بشأن اللقاء القادم قبل أن يُحدد موعده أو جدول أعماله. والسبب في ذلك اعتقاد خاطئ لدى إكثرية اللبنانيين سواء في السلطة أو خارجها، بأن قضاياهم وأزماتهم تحتل موقع الأولوية لدى سائر الجهات الخارجية المعنية بتلك اللقاءات، بل ربما تتقدم على سائر قضاياها ومصالحها حتى الداخلية منها.

كان الأمر كذلك قبل الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وخلالها وبعدها، ولا زال مستمراَ لغاية الآن. تتناسل الاجتهادات تبعاً لمواقع أصحابها المختلفة، وبما يتوافق مع رهاناتها الخارجية وطموحاتها الفئوية، مع توالي اللقاءات والأحداث، التي يأملون منها أن تأتي بدعم لهم، أو أن تفضي إلى تسوية أو مخرج لما هم فيه وعليه من أزمات أو نزاعات.

وبصرف النظر عن سيل التحليلات والمواقف والتقديرات المتباينة، التي تحفل بها وسائل الإعلام والتي تصدر عن اطراف الداخل، في اطار السجالات المفتوحة حول أهدافها وسياساتها الخاصة أو الفئوية، سواء كانت الغاية منها تسويق خياراتها، باعتبارها أمراً واقعاً أو حقيقة قائمة لا تقبل الجدال، أو في سبيل التعمية والتضليل حول ممارساتها. ولا تختلف عنها سياسات اطراف الخارج وأولوياتها المتباينة والمتناقضة، سوى في انتسابها لمصالح بلدانها وأنظمتها الحاكمة، التي تقرر صيغة ومدى اهتمامها بما يحيط بها من قضايا وأزمات في نطاق الإطارين الإقليمي والدولي بما فيه لبنان.

وفي ضوء ما يتم تداوله من تقديرات حول الاستحقاق الرئاسي، سواء تحت راية مقايضته مع رئاسة الحكومة، أو حول تقدم هذا المرشح أو ذاك وتكرار عد الأصوات، أو عبر معارك تسويق مرشح هذا الطرف أملاً بفرضه بقوة الأمر الواقع، أو محاصرة مرشح الطرف الآخر بقوة التعطيل، الذي تتحكم به توازنات القوى المحلية القابلة للتبدل في ضوء معطيات الخارج ومصالحه، فإن أزمات البلد واستحقاقاته كافة، كانت ولا تزال معلقة على أولويات الدول المعنية حيال قضايا لا حصر لها، تبدأ بالصراع العربي ـ الإسرائيلي ومآلاته الراهنة، معطوفاً على النزاعات والحروب الأهلية المشرعة على التدخلات الإقليمية والدولية، كما في سوريا والعراق واليمن وغيرها. وقد باتت بمجملها حلقات موصولة بأزمة النظام العالمي وما يحتشد تحت رايتها من صراعات وحروب متنوعة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

يعني ذلك أن جميع الاستحقاقات الداخلية معلقة بانتظار أن تنعقد تسوية الحد الأدنى القابلة للنفاذ، بين اطراف الخارج والموصولة بمصالحها وأولوياتها أولاً. سواء تعلق الأمر بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة وإقرار الإصلاحات التي تتوافق معها ثانياً. وإلى ذلك الحين لا قعر مرئياً للانهيار القائم والمستمر. هذا ما تؤكده الوقائع والمعطيات اليومية سواء تعلق الأمر بمدى انغلاق اطراف السلطة التي تستمد حيثيات سياساتها وممارساتها من مادة الانقسام الأهلي الطائفي الموروث، معطوفاً على الاستقواء بالخارج، الأمر الذي يبقيها في مواقع الارتهان لسياساته ومصالحه من جهة، وفي حالة انتظار دائم، من جهة أخرى، لما يترتب على صراعاته أو تفاهماته من نتائج ومضاعفات.

وكما وأن الانغلاق تحول استعصاءً وقيداً مانعاً ومعطلاً في آن، بشأن إمكانية أية تسويات داخليه، فإنه أيضاً اصبح موّلداً للأخطار التي تهدد مصير البلد في آن. هذا ما تؤكده معطيات ووقائع ونتائج السياسات المافياوية والممارسات الميليشياوية المعتمدة من قبل اطراف السلطة في ظل نظام المحاصصة القائم، كما يعززه ارتباطها بمحاور الخارج والرهان على دوله. مما يشكل دافعاً لها للإقامة عند مصالحها وأهدافها الفئوية، دون أي اعتبار لجميع القيم الإنسانية والوطنية على جميع المستويات. وسط تجاهل تام لتقارير الهيئات والمؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث والدراسات المعنية بالأزمة الاقتصادية والمالية ومفاعيلها السلبية على الصعيد الاجتماعي، التي لم تفتأ تكرر تحميلها المسؤولية الكاملة عن الانهيار الاقتصادي والمالي وعن انهيار مؤسسات الدولة وقطاعاتها الخدماتية، كما وأنها لا تتردد في وصف سياساتها بالمتعمدة والاحتيالية في آن.

والأدهى من ذلك أن الجهات الدولية الحريصة على مصالح بلدانها، والتي فقدت الثقة بمصداقية وجدارة قوى السلطة اللبنانية على صعيد تولي المسؤولية والاستجابة للإصلاحات الضرورية كشرط لاستئناف استثماراتها في لبنان، وتقديم المساعدات والدعم المالي للدولة اللبنانية المشلولة والمعطلة، وقد بات اكثر مؤسساتها موضع شبهة واتهام بالفساد وهدر أموال الخزينة واللبنانيين، بدءاً من المصرف المركزي والقطاع المصرفي، إلى القضاء والإدارة العامة وإدارات الطاقة والكهرباء والصحة والتعليم والمياه والنقل وسواها.

لكن الأخطر هو نجاح قوى الحكم والمحاصصة الطائفية في تزخيم انقسامات اللبنانيين، وفي تضليل وتشويه وعي أكثريتهم، حول مسؤولياتها عن الانهيار والدفع بهم للإقامة وسط الفوضى المطلقة. وهو ما لم تنج منه معظم نخب البلد وقواه ومجموعاته، بما فيها تلك التي تدعي الانتساب للمعارضة، سواء الليبرالية منها أو اليسارية، حيث السائد في أوساطها، يتراوح بين إدمان التبسيط واستسهال الرهان على بعض اطراف السلطة أو الخارج، أو الإقامة عند التحركات التي تعكس هشاشة بنية الداعين لها وضآلة فعاليتها، أو التي تؤدي إلى نتائج مدمرة، كما هو الحال مع قطاعات التعليم الرسمي والإدارة العامة والجامعة اللبنانية. الأمر الذي يعكس قصوراً في الانتساب إلى أزمة البلد، وفي قراءة مفاعيل انهيار الدولة ومؤسساتها وقطاعاتها لمصلحة مافيات التلاعب بقيمة النقد الوطني وتجار الخدمات العامة، ومما يشكل هروباً متمادياً من تحمل المسؤولية، والاستمرار في تحميلها للآخر في الداخل أو الخارج.

وعلى ذلك يتجدد انتظار التسويات من الخارج، الأمر الذي لم ولن يشكل بديلاً عن اضطلاع اللبنانيين بمسؤولياتهم التاريخية وخصوصاً قوى المعارضة، بكل تياراتها الفكرية وتشكيلاتها الاجتماعية المستقلة، عن قوى السلطة الطائفية ومشاريعها الفئوية، وعن سياساتها وخياراتها الانتحارية. يعني ذلك أن قوى ومجموعات المعارضة جميعاً مطالبة اليوم وليس غداً وقبل فوات الأوان ، بالتلاقي وبذل الجهد لإنتاج قراءة مشتركة لأزمات البلد حيث هي حقاً، ولطبيعة وحجم المخاطر التي تحاصر لبنان الكيان وأهله على كل المستويات، من الداخل والخارج على حد سواء. لأن تلك القراءة كانت وستبقى المدخل الأكثر صواباً لصياغة المبادئ والتوجهات العامة الأساسية، التي يمكن لها أن تشكل مظلة لتوحيد جهودهم على نحو يضعهم على سكة تحمل المسؤولية عن مصيرهم ومستقبلهم كي يبقى لهم وطن قابل للحياة والتقدم والتطور.

اخترنا لك