١٧ تشرين أيقَظ الحُلم، فهل من يُنهي الكابوس ؟

مشروع ذاكرة بقلم ندين موسى

محامية وناشطة سياسية

في 17 تشرين 2019، أيقظني الحلم، “حلم لبنان” الذي رافقني في كل ساحة وكل جبهة من نضالي المتواصل والمتنوع على مدى عقود… في أكثر أحلامي جرأةً، لم تتصوّر مخيلتي لبنان شعباً واحداً في ساحةٍ واحدة في الصورة التي رسمها هذا الحلم “التشريني” : علمٌ واحد بحجم وطن يَلف حلبا وساحة النور “عروس الثورة”، يغطي ساحل كسروان والمتن، مروراً “بالرينغ” ليجمع ساحتَي الشهداء ورياض الصلح، وصولاً إلى صيدا و”صور صور صور… كرمالك بدنا نثور”، وحتى بعلبك والنبطية. سلسلةٌ بشرية على طول الساحل اللبناني، كباراً وأطفال، نساءً ورجال، تجاراً وعمال، طلاباً ومدرسين، مالكين ومستأجرين، أرباب عمل وموظفين، جميعهم خرجوا من بيوتهم وقراهم، من مدارسهم وجامعاتهم، من متاجرهم ونقاباتهم يفضحون يداً بيد الفساد والهدر، ويعرّون أدوات التجييش الطائفي، والتجويع والفقر.

ذاك الخريف، أزهر نضالنا النسوي أخيراً: رأينا نساء لبنان في الطليعة، حوّلن أجسادهن درعاً منيعاً لحماية حلمنا من بشاعة السلطة وأزلامها، فقلَبن مخطط العنف والفتنة في أروع مشهد من هذا الحلم صنعَته أمهات الشياح وعين الرمانة. في يومٍ واحد، تساقطت كل المحرّمات واقتُلع الخوف المتجذر في نفوسنا، تحطّمت قدسية الزعماء، هوَت التبعية العمياء للزعيم في الداخل، وتوحّد النداء إلى الخارج: ارفعوا غطاءكم عن هذه الطبقة الحاكمة واعزلوها مالياً وسياسياً. إنه حلم الصّحوة، وما هي ثورة تشرين إلا ثورة اللبنانيين على الذات ؟

شهدتُ الحلم الواقع بكثيرٍ من الرضا. لقد أنصفني وطني أخيراً. قلت لنفسي التي كانت قد أقنعتني بأن كل سنوات نضالي سدىً وخيال: سنوات نضالك الحقوقي والنسوي والسياسي حوّلت الخيال إلى ممكن. لا أذكر تحديداً متى بدأ هذا الحلم يتبدّد، وكيف صار علينا أن نصحوَ منه…

وكما أيقظنا الحلم، صفَعت ثورة تشرين في أيامها الأولى جميع السياسيين، حتى أن بعضهم سارع لـ”ضب الشنتة” وتهيأ للمغادرة. في الأيام اللاحقة، التقطت مافيات وميليشيات المنظومة أنفاسها، وتوحّدت بوقاحة متوقعة حول هدفٍ واحد هو تدمير الثورة، في محاولة مستميتة للبقاء في الحكم. بدهاءٍ شيطاني، فعَّلت الزمرة الحاكمة تكتيها المعهود” فرّق تسد”، فتسلّل أزلام الأحزاب والأجهزة الأمنية إلى الشارع، ومنه إلى مجموعات الحراك، ثم وصلوا إلى الفكر الثوري.

اتبعت الزمرة الحاكمة تكتيكاً مفضوحاً، لكنه كان فعّالاً للأسف؛ وكانت أدواته :

أولاً – شيطنة الثورة والثوار، من خلال حشد اعلام المنظومة وجيوشها الإلكترونية – وعلى رأسها حزب الله، في حملات التخوين والترهيب، كالتشكيك في عفوية التحركات، واتهام الثوار بالعمالة للسفارات وبخدمة مخطط خارجي لتفكيك لبنان وتهديد سلمه الأهلي.

ثانياً – شحن العصب الطائفي، لشرذمة الثوار من الداخل من جهة، واضعاف الالتفاف الشعبي حول الثورة من جهة أخرى.

ثالثاً – استدراج الثوار نحو العنف لإفراغ الساحات، وتسعير القمع المفرط من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية بأوامر من المنظومة الحاكمة برمّتها، ولصق التدهور الاقتصادي بالتحركات لتقديم الانهيار الآتي كنتيجة للثورة بدلاً من حقيقة أنه سبب للانتفاضة الشعبية.

يذكر التاريخ ثلاثة أسباب رئيسية لفشل أي ثورة، تماماً كما رأينا حلم لبنان يتبدّد :

1- تلاعب و بروباغندا السلطة : من خلال أدواتها المفضوحة، نجحت السلطة في تعويم الفروقات الأيديولوجية والرؤى السياسية المختلفة بين الثوار لتعلوَ على وحدة مطالبهم، فكان أوضح انعكاس لذلك السجال الداخلي حول شعار “كلن يعني كلن”، واستبداله من قبل الكثيرين في الشارع بشعار ” كلن ما عدا زعيمي”.

2- غياب رؤية استراتيجية واحدة بين الثوار- لم يستطع الثوار التوافق على مطالب واضحة وممكنة التحقيق تدريجياً: قسمٌ يريد اسقاط النظام وآخر يكتفي بتعديله، قسمٌ يركّز على اسقاط حكم المصرف وحاكمه وآخر لا يعتبره أولوية، قسمٌ يطالب بتنفيذ القرارات الدولية وخصوصاً القرار 1559 وآخر يرفض الالتفات خارجاً، قسمٌ يريد إعطاء فرصة لحكومة حسان دياب وآخر يمانع، قسمٌ يريد إثارة موضوع سلاح حزب الله وقسم يتصدى لذلك… كنتيجة طبيعية وبنفس اللاواقعية، عجزت الثورة عن انتاج قيادة واحدة، فحلّق الكثير من رموزها بعيداً في الحلم، بتنصيب أنفسهم قادةً ومشاريع نواب دون امتلاكهم أدنى المؤهلات.

3- السياق الاقتصادي والسياسي – إن تزامن الثورة مع بداية الانهيار المالي الاقتصادي في لبنان والأزمات الحادة التي ألمت بالعالم ولبنان، وعلى رأسها تفجير المرفأ، وتكتيك المنظومة في إلصاق هذه الأزمات بالثورة، سارع من وتيرة الخيبة والإحباط الشعبي، وحوّل الحلم إلى كابوسٍ أقسى مما شهدنا قبل 17 تشرين.

هل قدرنا الخيبة والإحباط ؟

لا ! أيقنا في 17 تشرين أن التغيير الجذري الذي طالما ناضلنا من أجله ليس خيالاً، لكننا أيقنا أكثر من أي وقت مضى أن المسار طويل وشاق وتراكمي، وأن التغيير يتطلب جهوداً جبارة ونفساً طويلاً. لقد برهن الشباب في المعارك الانتخابية النيابية والنقابية والطلابية، بالتنظيم وفي صناديق الاقتراع، أن الدولة المدنية هي خيارهم وأن التجييش الطائفي وغيره من أدوات الزمرة الحاكمة لن يمر بهم. لقد أحيا الشباب، في لبنان والمهجر، أملنا بإحياء لبنان الحلم بالعمل والصبر.

إذاً ما المطلوب لتصويب المسار والاقتراب من التغيير ؟ بما أن التعويل على أخلاقيات السلطة أو التحكم بالسياق مستحيل، فإن المخرج الوحيد من هذا الكابوس هو بناء استراتيجية موحّدة لتحقيق رؤية واحدة، أهدافها واضحة وقابلة التحقيق لدى النخب والقطاعات الشعبية، تُنتج بدورها قيادة موحّدة قادرة على تنفيذها. قد يقول البعض أن هذا حلمٌ آخرٌ مستحيل. إن الطريق شاق لكنه أوضح أكثر من أي وقت مضى. الطريق الوحيد هو أن نضع الأنا المتضخمة جانباً ونختار مجلساً قيادياً بشرطين أساسيين :

الأول بديهي وهو توافر جميع المؤهلات اللازمة لممارسة العمل السياسي الأخلاقي، وطول النفس لخوض الطريق الشاق. أما الشرط الثاني والأهم برأيي فهو التعهد بالامتناع عن الترشح في الانتخابات النيابية القادمة أو تولي مناصب وزارية في الفترة الانتقالية حتى الإطاحة بالنظام ورموزه بالكامل.

فهل من يستوفي هذين الشرطين ؟

اخترنا لك