ذاكرة الثورة

مشروع ذاكرة بقلم حسن علي يونس

كاتب وباحث في الفلسفة – حائز على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية

تعثّر ثورة 17 تشرين وانكفأت لكنها لم تنته. كان من شبه المحتم أن تصل إلى ما وصلت إليه، ولعلّ ذلك من حُسن حظ الثورة وناشطيها. لا نقول هذا الكلام لأنّ دوافع الثورة وأسبابها لم تكن مشروعة أو ملحّة، ولا لأنّ منظومة الحكم تقوم بواجباتها qوتعالج قضايا البلاد المصيرية بحكمة وتعقّل وبُعد نظر.

إنّ لدى الشعب اللبناني من موجبات الاعتراض والثورة ما يكفي لملء الدنيا بالاحتجاجات والتظاهرات والسخط والانتفاض المتواصل حتى يُقدَّم جميع الحاكمين وحماتهم للمحاكمة بسبب ضلوعهم بارتكاب المخالفات القانونية والانتهاكات الدستورية والجرائم السياسية والمالية والأخلاقية والتفجيرات المتنقلة هنا وهناك والانغماس في محاور إقليمية مشبوهة لا مصلحة حقيقية للشعب اللبناني بها.

بالإضافة إلى تفكيك مؤسسات الدولة العميقة وتفريغها من مضمونها والعبث بها وتمزيق وحدة الشعب اللبناني وتعميق الانقسامات بين مكوّناته الطائفية والمذهبية وتحريض الكل على الكل والانخراط في نهب منظم لموارد الدولة وأموال الناس وأرزاقهم وتشتيت الجهود على حروب بالأجرة …الخ.

الثورة هي التجسيد الأرقى للحرية الإنسانية، وهي التعبير المباشر عن حلم التغيير من أجل غد أفضل أكثر تلاؤما مع قيم وتطلعات تحفظ للإنسان مكانته الاعتبارية الجديرة بالاحترام أفرادا وجماعات. كلما كانت تلك التطلعات والآمال أكثر عقلانية وواقعية فإنّ حظوظ نجاحها وتحققها تزداد وترتفع. ونحن إذ نكتب لنحفظ ذاكرة الثورة نلتفت قليلا إلى الوراء لنتبصّر في بعض المصاعب والهفوات وأوجه التقصير التي رافقت تلك الأيام العظيمة من حياتنا.

قامت ثورة عارمة بوجه نظام حكم يفتقر إلى أبسط مقوّعات الشرعية والمناقب الأخلاقية والفضائل السياسية، سلطة حاكمة ذات هشاشة وبؤس إداري لا نظير له حتى في الدول الفاشلة. مع ذلك، عجزت الثورة عن تحقيق أولويات أهدافها وهي إسقاطهم. بدا زعماء البلاد السلطويون كأقوى نظام حكم في العالم بوجه جماعات مدنية مثقفة ومستقلة إلى حد بعيد وحريصة على استعادة حاضر البلاد ومستقبلها من أجل حماية الانسان المقهور في حاضره وصونا للأجيال الصاعدة بناة المستقبل. انخرط في صفوف الثورة إلى جانبهم قوى وجمعيات مدنية وأحزاب سياسية عريقة في العمل السياسي وأخرى حديثة النشأة ذات توجهات متنوعة ومتباعدة لم تستطع أن تغيّر في مسار الأحداث ليكون أكثر جدوى.

إنّ ما نظنّه منظومة حكم فاسدة وفاقدة للشرعية ومفتقرة إلى القوة اللازمة للاستمرار بالحكم كان محض وهم وخيال. لقد استطاعت هذه المنظومة أن تشتّت شمل المجتمع وحوّلته إلى جماعات أشبه بعصابات خارجة على القانون تديرها زعامات تمرّست في أعمال الجريمة المنظمة والنشاطات المافياوية وهي ما أسميناها في مقالات سابقة بالسلطة اللصوصية. أطبقت بكامل جبروتها على رقاب الشعب وحوّلت أفراده وجماعاته إلى أتباع متسوّلين يستجدونها من أجل لقمة عيشهم، وفتحت مقارها لكل لصوص البلاد وشبيحتها موهمة الكثيرين بأنّها الحامي لهم ولحاضر ومستقبل عائلاتهم وأبنائهم الذين باتوا على استعداد تام للذود عن طغاتهم وسفاحيهم على حساب إخوانهم من المواطنين الذين استعصوا على الإخضاع وضد مصلحتهم الحقيقية بالذات. تكفّل هؤلاء بالتصدّي للجموع الثائرة والمنتفضة سواء عبر العنف العاري أو المؤسّسي والتنكيل بهم، تساندهم ترسانة عسكرية حربية ميلشياتيه هائلة تفوق أضعاف قوة المؤسسة العسكرية الشرعية. دحر مخرزهم عيون الثوار بلا رحمة أمام أعين العالم وخصوصاً أسيادهم الإقليميين. لم نجد مغيثاً لنا ونحن المتهمون بالارتباط بالخارج. ماذا لو استطاعت الثورة إحداث ثقب بالغ في جدار المنظومة اللصوصية يجبرها على المهادنة وإعادة تشكيل السلطة ؟

إنّ سلطة كالتي ورد وصفها ليست في وارد إجراء أيّ إصلاح طفيف يسمح بإعادة انتظام الحياة في البلاد رغم الأصوات الدولية العديدة والتهديدات المتواصلة بالعقوبات. وعليه يمكن استدراج بعض الأحزاب أو شخصيات من جمعيات المجتمع المدني المشاركة في الانتفاضات الثورية للتحاصص معها وإغداق بعض الوعود عليها. عندما تهدأ الأمور يتملصون من كل التزام ويعمدون إلى معاقبتهم بسبب تطاولهم على سلطانهم. هكذا تدب الانقسامات والفرقة بين الثائرين ونصل إلى إحباط مميت وتسيطر على البقية الباقية روح الانهزام واللا جدوى من أي عمل اعتراضي.

إنّ نظرة استرجاعية بسيطة إلى مجمل الثورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط تبيّن بوضوح أنّ غياب هيئات المجتمع المدني ومنظماته أو ضعفها ومحدودية تأثيرها على الأحداث يحول دون إحداث تغيير جوهري فعلي في حياة الشعب بكافة فئاته. الثورة التي تستهدف المجال السياسي حصراً وتعمل على إزاحة الحاكمين للحلول مكانهم لن تحقق من أحلام الناس وأهداف الثورة شيئاً. جل ما يحصل استبدال حاكم بآخر أكثر دموية وفساداً وارتباطاً بحماته الخارجيين. هذا ما حدث في ثورات مصر والعراق وليبيا وسوريا والجزائر وتونس والسودان واليمن وإيران وغيرها. إنّها ثورات أيديولوجية تضع نصب أعينها الإمساك بالسلطة ولا يوجد فيها هيئات مدنية ناشطة على نطاق واسع وفعال بما يكفي لتشكّل قوّة حيوية مؤثّرة في سير الأحداث.

ينطبق هذا الوصف بنسبة مختلفة على واقع هيئات ومنظمات المجتمع المدني في لبنان. اثبتت الأحداث عدم قدرة هذه القوى على التأثير الواسع والمباشر، وبالتالي يسهل التحريض عليها والانقضاض على ناشطيها واغتيالهم أو التنكيل بهم. لذلك نعتقد بأنّ المهمة الأكبر تقع على عاتق هذه القوى التي لا بدّ لها من مضاعفة جهودها بالتواصل الفعال الواسع مع كافة شرائح المجتمع وطبقاته والتحلي بالمصداقية الثورية والشفافية الفكرية والمادية والبعد عن الصغائر والتفاهات التنافسية الاستعراضية. لن ينصر الثورة حزب أو منظمة سياسية ما لم يكن لدينا مجتمع واع لقضاياه الوجودية والمعرفية والحضارية المختلفة. أمامنا مهمة استعادة أنفسنا من قبضة أشخاص سطوا على الحكم في ليلة حالكة غفا فيها الناس. هي ليست مهمة مستحيلة ولكنها في غاية الصعوبة وستمتد ربما إلى عقود.

بات على الجميع أن يدرك إلى أيّ مدى تشتّت أنظمة القهر والنهب شعوبها، وتحوّل الأفراد إلى عصابات متناحرة وإلى جموع سلبية تئنّ من الفقر والجوع والظلم والتخلف والخوف، وتتركهم يستجدون لقمة عيشهم ويتسوّلون رضا الزعيم القائد المفدّى للحصول على علاج لداء يفتك بواحد منهم أو أحد أفراد أسرته. ينبسط أمامنا طريق طويل لإعادة إحياء الشعب لإبراز نقاط قوّته ومصادر غناه الحيوية المتنوّعة: شعب ينبذ التهليل والتصفيق الغوغائي والتطبيل الأحمق، شعب فاعل متحرر من سطوة الآلهة المزيّفة، مستقل ويعي ما يطمح إليه، ولا يقبل أن يكون رقما في قطيع من الأغنام البشرية المبهورة بعبقرية قائدها الأمّي أو السفاح وحركاته البهلوانية.

الشعب الجدير بالثورة هو شعب حر وفاعل يبني مجتمعا مدنيا حضاريا يتابع شؤونه اليومية القريبة والبعيدة ويصنع قادته على قدر تطلعاته وقيمه وأهدافه. الشعب الفعال صانع القادة ولا يرضى بأن يكون شخص بمفرده صانع روح الشعب. ليس شعباً من يقبّل أحذية قادته وحكامه، ويفترش الأرض بجسده ليدوس عليها زعيمه المسكون بوساوسه المرَضية المجيدة. ليس شعباً ينصر ثورة من لا ينتفض على طغاته الذين سرقوا كل شيء وارتضوا الارتهان للخارج ونشروا الخراب والتوحّش لمواجهة المؤامرات المزعومة.

إذا أريد للثورة أن تحافظ على منطلقاتها وأن تكون وفية لأهدافها فينبغي عدم الوثوق بالسلطة أيّاً تكن. كل من يستخدم أو يُخوَّل سلطة ما فإنّه مرشح لأن يتحوّل إلى طاغية متوحّش يكتسح كل ما يحاول أن يكبح اندفاعه التسلطي إذا لم يقيّده دستور وقانون يتمتع بحماية شعبية ورقابة مجتمعية نشطة وفعالة وواعية.

إنّ أيّ عمل أو إجراء يقلّص من الفعالية والمشاركة النشطة والمراقبة الواعية المقيِّدة للحكومات والسلطات السياسية الأخرى يُفقِد الشعب حقاً أساسيا من حقوقه، ويعطي الحاكم فرصة اغتصاب السلطة وتمزيق الدستور وتعطيل إنفاذ القوانين. خلع حاكم واستبداله بآخر عمل أخرق لا جدوى منه إذا لم يصاحبه فعالية تعيد توازن السلطات والقيود القانونية بين الحاكم والمحكوم. لا يجب أن نفهم مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعدد مراكز القوى بوصفه حصرا تعدّد رؤوس سلطوية حاكمة من جهة بمقابل جماعات أخرى محكومة من جهة أخرى. إنّه توزيع صلاحيات وسلطات من أعلى إلى أسفل وبالعكس. امتلاك سلطة لدى المحكومين يقتضي امتلاك قدرة على كبح جماح السلطة لدى الحاكمين المقيَّدين بنصوص دستورية وقوانين ملزمة. إذا كان بإمكان الحاكمين دائما العمل بتعسّف واستغلال النفوذ وتغطية أعمالهم بالنصوص الدستورية أو القانونية، فإنّ الوعي والفعالية المجتمعية هما ما يجب أن يضمنا حُسن سير الأمور ضمن الإطار السوي المرغوب.

اخترنا لك