ميشال الشماعي : ماذا بعد…

قراءة نقدية للدكتور جورج شكيب سعادة

لا يطيب الواقع للشعر زاداً ..

فالشعر يلملم مائدته من كروم كثيرة ..

الواقع له نقطة انطلاق من مرفأ ليبحر أو مطار ليُقلع ..

للمركبات الفضائية محطّات ولكن السفر ليس المحطة … والأجنحة لتخفق وتعلو .

في البداية نرى ، ندرك ، نشعر ، نتأثر نحبّ تفتح العاطفة رَحِمَ الخيال ..

ننطلق في رحلة صوب أعماق الذات وأبعاد الوجود ، رحلةِ لا يعرف حتى الشاعر مداها …

الشعر ، يا سادة ، سفرٌ وإبحار بلا نهاية … لكن حين يصاب القبطان بالوهَن يعود إلى حيثما انطلق ، يستقرّ في جلبة الذات أو هدأتها ، يجمع حصاد أيامه يفلشها على بيادر الصفحات .

النحلة عندما تدندن في الحقول ، نملأ أحشاءها قدر طاقتها ، ترجع إلى القفير بجناحين مرهقين ، وفرح غامر … فغدها شهد وعسل …

ولميشال الشماعي في ديوانه ” ماذا بعد ؟ …” سفر في العاصفة وابحار في الأنواء .. ” فماذا بعد “… تحمل الكثير تتخطّي الآن … تتعدّى اللحظة … تنسل خيوطاً من الماضي وترميها في بحر المستقبل … وبعد ، قد يكون كل شيء فرحاً أو حزناً ، أملاً أو قنوطاً … فالاستفهام جهل بالمصير … والمستقبل يسكن في غابة ظليلة أو وراء تلّة … ونحن بإزائه نأمل نحلم … ولا نعرف …

في ديوانك يا عزيزي حنين غامض وشوق ملحاح ينبتان على ضفاف القلب ، يرتويان من معين الدفء … ودفقِ العاطفة والشعر الشعر لا يكتبه إلا من يترشّف كأس الحنين والشوق ويندفع بهما إلى سفر . الحنين ترسمه الذكريات ،والشوق وقود له . وهما تؤامان ، كعاشقين يتعانقان . فالحنين حالة قد لا نعرف مصدرها المباشر . تكمن فينا وتدعونا للعودة إلى هنيهات عبرت ، ورقدت مفاعيلها في الأعماق تنتظر … تفاجئنا كما النسائم للأغصان ، تترك فينا ارتعاشات . وهي كمثل حنين الغيم إلى البحر ، والجداول المرنّمة إلى جنينية ارحام التراب ، وحنين الخوابى إلى العناقيد …

عزيزي ميشال لقد قرأت ديوانك وحاولت أن أستلّ قصائدك من برائن عاصفة داخلية تسعى إلى بعثرة أجزائها وأن أكشف عنها نقاباً يجلّلها وهي في ذلك كغراس على هضبة وقد كللتها غيمات متعبة سقطت عليها ..

فأنت جمعت العناصر إلى الانسان ، وربطت بين الكائنات والأشياء ربطاً تمازجه بنات الوجدان عاطفة صادقة وشعوراً مرهفاً … فجمعت المتناقضات على تآلف ، وزاوجت بين المتنافرات على وفاق … فالثلج عندك دفء والنار صقيع … والعري طهر … لعهد ما قبل الخطيئة الفردوسية . جميلة هذه الصور … وهل تعلمون يا سادة أن كل عنصر يتطرّف ، يفقد وظيفته ، ويشابه نقيضه . ألم يقِل القرويون ألحّ الصقيع فأحرق المزروعات …فالكون بالنتيجة ، وبقدرة خالقه لا ينطوي على تناقض بل على تعدد … وكل الجذور تتعانق في عتمة التراب …

وأنت في قصائدك الطريفة ، وفي مطبخك الشعري المميز ضربت أخماس العناصر بأسداسها فقدمت لنا لوحات رفضْتَ الوضوح فيها ، ورفضت أحادية المشهد ، فإذا بها تضطرب في قلق الكثره ، وفي التعدد المفاجئ الذي ينتقل بالقارئ من مناخ إلى مناخ بسرعة لافتة … مع ضبابية ، تلف القصائد ، كنقاب عروس … فالبحر والعاصفة والمطر والغيم والتراب والجداول ، لكل منها حصة وفيرة في معظم ما كتبت كأنك أهديتنا وجوداً كثيفاً نابضاً بالحياة . وأنت تقصد في غموضك انبات أجنحة الكلمات والأرتفاع بها فوق فسحات الواقع والمرئي ولا تولّدها إلا تحت أجنحة الضباب …

وألفاظك بل قل ، أواني الكلمات عندك ، قد لا تتلفّق وهج الصورة بأكملها … فبعضها يهرب بعيداً أو يعود إلى أعماقك يحتجب منتظراً قصيدة جديدة … والكلمة في أي حال لا تستطيع ان تنقل مادة النفس بكليتها لأنها روحية سريعة التبخر … وهذا هو سبب أحزان الشعراء . وقد سئل عمر أبو ريشة يوماً أيها أجمل قصائدك قال :تلك التي لم يقتلها الحرف بعد …

عزيزي ميشال ، أنت في ديوانك تتكئ على قلق فكري ، واضطراب عاطفي ، وكلاهما يضطرم بقلق وجودي . تهبّ عواصف ذاتك ، تشظّي كيانك ، تبعثره ، كما تبعثر الأشياءَ على نظام تقليدي معروف … كأنُّك إلى الهدم أميل . فتولد قصيدتك مرآة ذات ، مرتعشة الفرائص والأواصر …

لقد جعلت ذاتك والحبيبة والانسان عموماً في مهب رياح الكون ، وجعلت الدائرة تتّسع كلما أبحرت … فإذا حان المخاض أتيت بأجنّة لعائلةٍ لم يعقد والداها قراناً شرعياً ، بل وضعتهم صدفة الشعر المتعدد المنابع في منازل القصيدة …

فأنت في ديوانك أمسكت بالحواس واحدة واحدة ، أو هي أمسكت بمجامع فكرك ووجدانك ، فغزلت من خيوط الحسّ ووهج العاطفة كلمات …بنيت بها عمارتك الشعرية . وقد انطلقْتَ من المحسوس إلى المجرّد ، ومن الوعي إلى اللاوعي ، ثم أبحرت منه إلى كون غائم داكن يصعب تحديد معالمه … وبعض ما ألفيناهُ في الطريق بين الذات والوجود ، بدا طارئاً مفاجئاً تتحكّم به الصدفة ..

واللافت في ديوانك اصرارك على الرحيل ..فكم من قصيدة ختمتها بوداع أو فراق ،أو سفر وكلّها تتضمّن الرحيل … الرحيل يتصل بالغموض ، والغموض يستجيب لحالة قائمة في النفس لم تجد لها تفسيراً بعد ..

أمّا الحب عندك فبعضه من نسيج الذات ومعاناتها ، وبعضه مما تصنعه الأحلام وتكمله الرؤى … فأنت منه بين عذرية وإباحية .. خاضع ، إلى حد ، لسلّم القيم والمعايير الأخلاقية المتجهة ناحية السمو . كأنك تدرك ما قاله جبران في مواكبه :

والحب ان قادت الأجسام موكِبَه إلى فراش من الأغراض ينتحر

والحب في الجسم لا في الروح نعرفه كالخمر للوحي لا للسكر ينعصر.

عزيزي ميشال لقد كنت مفرط الاجتهاد ، مبكراً إلى كرومك ، وعناقيدك ما تزال بعد تلاويح ، إلا أنها تبشر بموسم خير ، وأنت فيها تسارع إلى سلب الشمس الدفء ، والنسيم اللطافة ، والتراب مداد الجداول ، فترضع منها جنى كرومك ليدنو موعدها مع الخمارة والخوابي فتمتلئ منها كؤوس الكلمات خمرة جيدة لنشوة القلب والروح .

اخترنا لك