حين قرّر مخرج إيطالي كشف الإبادة الجماعيّة لعائلة غزية

بقلم يوسف الشايب

عُرض فيلم “طريق السموني” ( 2018 )، وهو وثائقي للإيطالي ستيفانو سافونا، كان فاز في عام إنتاجه بجائزة “العين الذهبية” لأفضل وثائقي في مهرجان كان، في سينما القصبة ضمن عروض “يلّا غزة” (فعالية تضامنية سينمائية لمخرجين أجانب)، تشتمل على سبعة أفلام، وانطلقت في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، فيما تختتم مساء العشرين من ديسمبر/ كانون الأول الحالي.

ويدين سافونا، الذي رصد حكاية إبادة العدد الأكبر من عائلة “السموني” في العدوان الإسرائيلي 2008/2009، جنود الاحتلال، كاشفًا عن وحشية غير مسبوقة، في قتل مدنيين، تم اقتحام منازلهم في الحي الزراعي الهادئ دومًا، ويعرف باسمهم، على السياج الحدودي ما بين غزة والأراضي المحتلة عام 1948، عقب إنزال جوّي متعمد، ذهب ضحيته العشرات، فينقل إلى العالم كيف تنقلب حياة عائلة كبيرة جدًا تعيش على مشارف مدينة غزة، بين عشية وضحاها، وكيف ينهار كل شيء فجأة.

وينقل المخرج الإيطالي في فيلمه الوثائقي المدعوم برسوم متحركة (أنيميشن) أضافت إلى الحكاية مضمونًا وشكلًا، وأنجزتهت مونتي بايثون، ما حدث من جريمة إبادة، كانت حديث العالم وقتها، عبر تسليط الضوء على الطفلة “أمل” الناجية التي خالوها ميتة، ولا تزال الشظايا في رأسها، جراء العملية التي نفذها عشرات الجنود، ما بين اقتحام منازل، وقتل مباشر، وأسر، وقصف لمنزل أحد الأشقاء “السموني” بعد تجميع عائلاتهم قسرًا فيه، وعن سابق إصرار ووحشية في العدوان الذي أطلقت عليه سلطات الاحتلال اسم “الرصاص المصبوب”، كناية عن القتل دون عقاب، بالاتكاء كعادتها على سياسة الأرض المحروقة، والتدمير، والهدم، والقتل، فمقابل كل قتيل إسرائيلي أعداد مضاعفة بشكل مبالغ فيه ممن لا ذنب لهم من الفلسطينيين في غزة.

هكذا، قد يبدو أن الأمر ينتهي بقتل حتى سكان غزة البعيدين عن السياسة، والذين يريدون الاستمرار في أحلامهم بالعيش بسلام، كما هي عائلة “السموني”، التي من الصعب رصد وضع كل فرد من أفرادها، ما بين إخوة من أمهات وأبناء إخوة وأبناء عمومة وأعمام، إلا أن الاحتلال قرر وضعهم جميعًا في سلة واحدة، والتعامل معهم باعتبارهم إرهابيين، أو “حيوانات بشرية”.

وحسب المخرج الإيطالي سافونا، فإنه حاول أن ينقل بدقة ما جرى لعائلة “السموني” التي استهدفتها القوات الإسرائيلية شمال قطاع غزة أثناء عملية “الرصاص المصبوب”، فأجهزت على 29 فردًا منها، مطلع العام 2009.

حينها، كان المخرج الإيطالي يصوّر العدوان على غزة يوميًا، ونظرًا للكم الهائل من شهادات الناجين التي وقف عليها، قرّر العودة عامًا بعد ذلك ليحضر حفل زفاف للعائلة نفسها، كان اتفق عليه من قبل بين اثنين من الأخوة قتلوا بالرصاص الحي والقصف، لكن العروسين “فؤاد” و”شافية” كتب لهما النجاة، ومن هنا عزم سافونا على رواية حكاية العائلة قبل وأثناء وبعد فقدانها فلذات أكبادها، ونجح في ذلك بعد تهريبه في نفق من مصر إلى القطاع المحاصر.

وفي مواجهة نقص الصور، استعان سافونا بسينما التحريك، وهو ما يلجأ إليه عديد المخرجين، لا سيما في الأفلام الوثائقية أو التسجيلية، وتحديدًا عند تعذّر إجراء لقاءات أو تصوير بعض الشخصيات المحورية، إما لكونها رحلت كما العديد من شخصيات عائلة “السموني”، أو لعدم رغبتها بالظهور مباشرة مع عدم التحفظ على الصوت، أو لأسباب فنية جمالية، وغير ذلك.

واعتبر سافونا أن “الرسوم المتحركة تسمح بطريقة ما بإرجاع الموتى”، مضيفًا: “كان الوضع مأساويًا في غزة، وقد تفاقم الوضع، وجلّ ما أردته هو إبراز هؤلاء الأشخاص وإعطاؤهم الكلمة”.

قضى سافونا تسع سنوات في محاولة تجميع الأحداث، حين دمرت القوات الإسرائيلية الخاصة مجتمعًا زراعيًا بسيطًا في شمال قطاع غزة، إلا أن المستهدفين من المدنيّين الفلسطينيين، ومعظمهم من النساء والأطفال، بقوا جرحى لثلاثة أيام قبل أن يتمكن عناصر من “الصليب الأحمر” من الوصول إليهم، وكان قضى منهم قرابة الثلاثين، بحيث بقيت الجثث في المنزل الذي تعرض للقصف، أربعة عشر يومًا.

يتذكر المخرج الإيطالي: كنت أذهب إلى هناك كل يوم… كان الناس يعودون كل صباح ليبحثوا تحت الأنقاض، وكنت أتحدث معهم… كان هناك 150 شخصًا في المنزل وكلهم أبناء عمومة عندما قصفته مروحيات أباتشي الإسرائيلية الحربية.

ونجح “طريق السموني” في عرض حياة حقيقية تأثرت بالوحشية التي تفوق الخيال، فكان أن ساهم في إسكات تلك الأصوات الصاخبة من جميع الأطراف غير القادرة على الرؤية لأبعد من الدعاية المتعصبة الخاصة بهم، أي الاحتلال الإسرائيلي ومن يسانده، فتابع آلام وصمود هؤلاء، أو من تبقى منهم، في محاولة لإعادة بناء حياتهم بعد مجزرة 2009، مشيرًا إلى أن عائلة أو عشيرة “السموني” ظلت تزرع حقولها في شمال غزة منذ عصور موغلة في القدم.

إن عائلة “السموني” تعتبر نفسها من سكان غزة الأصليين، وكانوا يفخرون بذلك… كانوا مجتمعًا منفصلًا داخل غزة، يتزاوجون فيما بينهم ولهم لهجتهم الخاصة.

ومن الناحية السياسية، كانوا أقل مشاركة من معظم سكان غزة اللاجئين، الذين استقروا في القطاع بعد تهجيرهم قسرًا من منازلهم جرّاء النكبة الفلسطينية، بجيث يؤكد سافونا أن عائلة “السموني” لم يكونوا من المؤيدين لحركة حماس، إلا أن أراضيهم ومنازلهم ومساجدهم دمرت خلال العملية الإسرائيلية واسعة النطاق، والتي حوّلت مجتمعهم إلى “صحراء من صنع الإنسان”.

لم يرد مخرج “طريق السموني” أن يستغرق في مشاعره داخل هذا الفيلم، خشية أن ينتهي به الأمر مقدمًا مادة بصرية تظهر للآلاف كأنها “نوع من الابتزاز النفسي”.
قدّم سافونا المهمة البصرية التي خرجت على شكل فيلم وثائقي غير كلاسيكي، بأسلوب أنيق، من خلال بناء ذكريات الماضي الرائعة لتخبرنا “أمل” بما حدث تمامًا حتى انتهى الأمر بها مصابة بشظية في جمجمتها ودماغها.

تظهر ابنة عائلة “السموني” في مشهد أولي مليء بالمعاني السينمائية غير المباشرة، بحيث تخبر الطفلة الساكنة العالم كيف كان حيّها… ماذا كان هناك قبل ذلك اليوم، ما الذي حدث بشجرة الجميز الكبيرة التي كثيرًا ما لجأوا إليها لتقيهم من الحر، أو التي تسلقوها مرارًا لقطف ثمارها، وعن بيت أمها وأبيها، وبيوت إخوتها غير الأشقاء، وبيوت أعمامها وأجدادها.

يرسم الفيلم مساحة ثلاثية الأبعاد لم يتبقَ منها شيء، ممارسًا تمرينًا للذاكرة، شيئًا فشيئًا، بحيث يعيد المتذكرون بناء ما هدمه جيش الاحتلال الإسرائيلي وبعثره.

إن الناجين لا يعرفون ما السبب فيما حصل لهم، كما كان من قبل الضحايا… إنهم يعرفون فقط أنهم مزارعون، وأنهم عملوا في إسرائيل حتى تم إغلاق الحدود أمام العمال الفلسطينيين، وأن لديهم أصدقاء بين زملائهم في العمل على الجانب الآخر من الحدود، وأنهم اعتقدوا أنه ليس لديهم ما يخشونه إذا تم إغلاق الحدود أمامهم.

وفي الفيلم يطلّ جيش الاحتلال، على الرغم من أن العديد من أفراد العائلات وسكان الحي اختاروا اللجوء إلى المدينة، ليبدأ الهجوم المدمر والقاتل وغير المبرر.

ولا يبدو مستهجنًا في الدقائق الأولى من الفيلم، أن تترك “أمل”، عندما تمشط شعرها، عصابة رأسها على مستوى العين بل تستخدمها كعصابة للعينين كي لا ترى الحاضر، لعلها لا تتذكر الماضي، فقد تُركت “ميتة” لثلاثة أيام لم يسمح خلالها جيش الاحتلال الإسرائيلي للصليب الأحمر بالدخول للتحقق من الجثث والبحث عن ناجين بين الأنقاض في الحي، وكانت من بينهم، هي التي باتت شاهدة من الموتى وبينهم عن الموتى، قبل أن ينهي الفيلم بحفل زفاف تأجل لعام كامل، وتمّ على أنقاض الركام المتراكم للمنازل، ووسط أغنيات غابت عن الآذان في غمرة الأحضان والدموع، والصورة الفوتوغرافية الجديدة لمن تبقوا من عائلة “السموني”، والتي حلّت عوضًا عن صورة سابقة لمن كانوا على قيد الحياة، قبل استهدافهم الذي لا يفهمونه، وهو ما يحدث مرة أخرى هذه الأيام في كل ركن من قطاع غزة.

اخترنا لك