بقلم مجيد مطر
إيران، أو الجمهورية الإسلامية، قد خسرت حربها ضد العراق لأنها عجزت عن التحول إلى دولة فعلية، أو لنقل لأنّها لم تسلك السلوك الطبيعي للدول. وهي دائماً تعاني، وستعاني من أزمات في الداخل والخارج، لتفوّق منطق الثورة لديها على منطق الدولة!
في هذا الشأن، لو لم يتضمن التفاهم بين السعودية وايران، الذي تمّ بمبادرة من الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، الهادف إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، المقطوعة منذ العام 2016 بعد الهجوم على المقر الدبلوماسي السعودي في طهران، بنداً مهماً يقول باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، لكان بمضمونه مجرد بيانٍ يأتي في سياق دبلوماسي، يشجع على المحاولة لحل الخلافات بين الطرفين عبر الحوار، بدلاً من المواجهات الأمنية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة.
إنّ تأصيل النقاش حيال هذا التفاهم يبدأ وينتهي عند البند الثاني من البيان: «احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية». إنّ الجمهورية الإسلامية التي قامت منذ 40 سنة ونيّف لا تزال تعتبر نفسها «صاحبة رسالة كونية»، أبعدتها عن حيّز الدولة وأبقتها في بوتقة الثورة التي أنشأت لها حرساً، أسس بدوره فيلقاً للقدس كجناحٍ خارجي له، الذي صال وجال في كل «زنقات» وزواريب المنطقة العربية، لكنّه تاه فعلياً عن طريق القدس.
فكيف نفهم عبارة احترام سيادة الدول في مقابل مصطلح «تصدير الثورة» الذي يعتبر القلب النابض للنظام الإيراني؟ فالايرانيون روجوا له بغزارة واستعلاء، لكونه يمثل خلاصة الجموح التوسعي في أربع عواصم عربية، وعاصمتنا بيروت واحدة منها!
أمّا بالنسبة للدولة السعودية، فالمقارنة بينها وبين ايران غير متكافئة، فهي صاحبة تقاليد بانتهاج الدبلوماسية الهادئة، ولا تملك مشروعاً خاصاً بها مُعداً للتصدير، إذ ليس صدفةً، والحال هذه أن تقبل قيادة المملكة، مضمون هذا البيان وتحديداً لناحية عدم التدخل في شؤون الآخرين، كون الطرف الآخر هو من نحت مصطلح «تصدير الثورة» الذي لا معنى له سوى مفهومٍ واحدٍ، يتناقض بجوهره السياسي مع الزامات المبدأ الذي ينصُّ عليه القانون الدولي. فكل عملية تصدير سواء لسلع أم لأفكار أم لمشاريع، لا تتم الا عبر حدود الدول، وهي واحد من احتمالين، إمّا تصدير يحترم سيادة الدول، وإمّا تصدير يعتدي عليها.
فعدم التدخل بشؤون الآخرين هو سلوك سعودي يدخل في الثقافة الاستراتيجية للمملكة، ويتّسق بطبيعته مع ما هو وارد في ميثاق الأمم المتحدة المتضمن مبدأ «عدم التدخل» بالشؤون الداخلية والخارجية للدول، ومبدأ «عدم التدخل» نفسه يلزم الأمم المتحدة بدورها بعدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء، ما خلا ما نصَّ عليه الميثاق من إجراءات زاجرة يقرّها ضد الدول المعتدية.
بكلام آخر، لطالما قال المجتمع الدولي، إنّه لا يريد تغيير النظام الإيراني، بل كان يدعوه لتغيير سلوكه، المزعزِع للاستقرار الإقليمي والدولي، من دون أن يعطينا تعريفاً محدداً لمطلب تغيير السلوك.
فبالعودة إلى أدبيات علم سياسة، من الصعب تطبيق مبدأ «التغيير من ضمن الاستمرارية» على أنظمة كالنظام الإيراني، أو السوري، أو الكوري الشمالي، فهذه أنظمة بمجرد أن تغيّر سلوكها، تسقط وتفقد شروط بقائها. تماماً عندما نطلب من «اللص» أو «المحتال» أن يغيّر سلوكه، إذ لا خيار أمامه إمّا يكون أميناً أو سارقاً، ولمجرد أن يتوقف عن أعماله الإجرامية، يكون قد دخل في عداد الصالحين.
فطبيعة الأنظمة الاستبدادية لا تحتمل تغيير سلوكها، أو أن تتسم بالعقلانية المطلوبة في العلاقات الدولية، ولقد خبرنا من خلال كثير من الأحداث أنّ التزامات تلك الأنظمة تبقى احتمالية، ورهن بتطور الظروف الداخلية والخارجية. وسلوكها هنا يشبه «خنجر جانو» الذي مرّة تستبدل قبضته وأخرى نصله، أي أنّ المكاسب قد تتحول بسرعة إلى خسائر، والمزايا قد تنقلب إلى مساوئ.
لا شك أنّ واحداً من الأسباب التي لا يمكن التغافل عنه الذي يكون قد ساهم بتوقيع التفاهم، هو حراك شابات وشبان الشعب الإيراني، الذين ينظرون من حولهم كيف أنّ الدول المحيطة بهم تزدهر على الصعد كافة، وهم يعانون من سياسات تهدر ثرواتهم في حروب لا طائل منها، أفقرتهم وجعلتهم بمستوى الدول الفقيرة والمعدمة. إنّ الشعوب تنتظر من حكوماتها تحقيق الازدهار والرفاهية، ومن حقها أن تطالب ببناء الدولة وإنشاء البنى التحتية بالياقوت والمرمر. والشعب الإيراني يستحق ذلك.