في الذكرى الرابعة للانتفاضة : تحلل المؤسسات وخطر تفكك الكيان

مشروع ذاكرة بقلم وفيق الهواري

صحافي و ناشط سياسي

صيدا في العام ٢٠٢٣، لا كهرباء عامة، انقطاع دوري لمياه الشرب، النفايات تتكدس في شوارع المدينة، مركز المعالجة متوقف عن العمل، الفوضى سيدة المدينة، التعليم العام شبه متوقف، المستشفى الحكومي رمز الفساد، وقد تحول إلى مستشفى خاص فعليا، المستشفى التركي لم يعمل بكل اقسامه، الجوع يصيب عائلات كثيرة، لا مجلس بلدي مسؤول في المدينة، ولا اتحاد بلديات للمنطقة ومؤسسات الدولة الى مزيد من التحلل، ولا نخب معارضة تملك خططا قابلة للتحقق من خلال بناء نظام المصلحة المشتركة، وكل مقيم يبحث عن حل فردي وقد خسرت الجماعة مساحتها المشتركة والجمهور مصاب بالإحباط ولا قيادة سياسية يثق بها.

تعود بي الذاكرة الى مساء الخميس ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، كنت ومجموعة من الناشطين في لقاء مع النائب د. أسامة سعد للبحث في قضايا تخص المدينة، اتصل احد الأشخاص يبلغ د. سعد ان عددا من الناشطين يتجهون الى مركز اوجيرو لإعلان رفضهم قرار زيادة الرسوم على الهاتف، جواب سعد كان واضحا: ” لهم الحق بذلك، المهم ان لا يحصل فوضى”.

استمر اللقاء، لكن بعد ساعة اتصال اخر يخبرنا ان عدد المتظاهرين الى تزايد وأنهم يتجهون نحو ساحة إيليا.
اتصل بي أحد الأصدقاء من بيروت يسألني :” ماذا يحصل في صيدا؟”.
اجبته :” انه تحرك عفوي، واعتقد ان التحرك سينتهي هذه الليلة”.
أجاب بشكل حاسم :” لا، سيستمر التحرك لان الوضع لم يعد يحتمل، وفي بيروت الجميع يتحرك وهذا ما سيحصل في باقي المناطق”.
عدت الى المنزل ليلا، اراقب التلفاز، بعد منتصف الليل، الجموع تملأ ساحة إيليا، والنائب سعد يزورهم ويعلن تأييده للتحرك.
وهكذا بدأت انتفاضة ١٧ تشرين في مدينة صيدا.

توالت الأيام وتزايدت إعداد المشاركين والمشاركات، لوحظ ارتفاع عدد النساء المشاركات من ذوي الاعمار التي تتجاوز الأربعين عاما، تحركهن كان تعبيرا وخوفا على مستقبل الأبناء والبنات.

وبدأت المجموعات بالتكون وكلها تنادي بالتغيير الجذري، والشعار الأساس : إسقاط النظام الطائفي، كلن يعني كلن.

وصارت التجمعات والنشاطات يومية، وبدأت مجموعات مرتبطة بأطراف سلطوية بالمشاركة بحجة التغيير ايضا،

بدأ النقاش اليومي في الخيم التي انتشرت وفي المقاهي القريبة حول التحركات وما يمكن ان تحدث من تغيير في السلطة، كثير كان مقتنعا ان التغيير قادم وأن السلطة ستسقط، وانها ثورة ستستمر حتى الوصول الى الأهداف المعلنة، لكن قلة كانت تقول في اللقاءات، ان ما نشهده هو انتفاضة ستخمد بعد حين، علينا أن ننتهز الفرصة لتنظيم اكبر عدد ممكن من المشاركين في أطر تتابع قضايا المدينة التي تعاني من مشكلات نظام المحاصصة الطائفية، لكن الأكثرية كانت ترى ان ذلك غير ضروري لأن الجميع سيشارك باستمرار.

وحصل نقاش في احدى الخيم حول الحركة النقابية، كانت الأكثرية مع خطوة السيطرة على الاتحاد وعقد مؤتمر صحافي فيه ردا على ما اقترفته اطراف السلطة في تسعينيات القرن الماضي، وطرحت الأقلية وجهة نظر تدعو لاستعادة الصلة بما تبقى من قطاعات تحوي عمالا ومستخدمين وحددت عددا من النقابات لكن لم يحصل اي متابعة للموضوع.

كما طرح الوضع التربوي في المدينة وخصوصا بعد انتشار الكورونا الا ان أحدا لم يهتم بمتابعته.

كانت النشاطات تتوالى في ساحة إيليا ويشارك بها عدد كبير من المواطنين، وينتهي اللقاء بانتهاء النشاط، لم تتكون قيادة موحدة للانتفاضة تضع خطط للمتابعة بالقضايا وبالسياسات المطلوبة.

وحصلت حادثة مميزة خلال الانتفاضة، حادثة البوسطة القادمة من شمال لبنان الى جنوبه، كان يوم سبت، وكنت قرب احدى الخيم، ومسؤولي احدى المجموعات تعنف ناشطا لأنه كان مصرا على استقبال البوسطة وتمريرها الى الجنوب، في حين ان تلك المجموعة رفضت استقبال البوسطة، كانت الاتصالات مستمرة حول قرار منعها من الدخول إلى محافظة الجنوب من قبل قوى سلطوية وبين الباحث عن تسوية ما للموضوع، وإعلان قوى السلطة عجزها عن حماية البوسطة، وعدم القدرة على منع الاعتداء عليها، حصلت التسوية بإدخالها الى صيدا وعودتها بعد ذلك الى بيروت.

بات واضحا ان الانتفاضة بدأت بالانتهاء من دون تحقيق نجاح واضح قادر على الاستمرار.

وانتهى الامر ان المجموعات عجزت عام ٢٠٢٢ من الاتفاق على مرشح واحد كي يتم تسويقه كمرشح لقوى الانتفاضة، وكان ان ترشح أربعة اشخاص على لوائح مختلفة.
يوم الثلاثاء الواقع فيه ١٧ تشرين الأول ٢٠٢٣، تمر الذكرى الرابعة للانتفاضة الشعبية التي شهد لبنان بدايتها في ذات التاريخ عام ٢٠١٩.

لكن لبنان، وفي خلال السنة الرابعة للذكرى، شهد انهيارا غير مسبوقا، لم يشهد له مثيلا منذ تأسيس الكيان اللبناني عام ١٩٢٠. ان أصحاب النظام الطائفي لم يتفقوا على حلول لنظام محاصصتهم، وما زالوا يتنازعون على زعامة النظام، ليحافظوا على نظامهم لا مشكلة لديهم بالتضحية بالكيان نفسه. الانهيار المتسارع شمل مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والحقوقية والمجتمعية والسياسية. لكن هذا الانهيار الكامل لم يكن ابن ساعته، ولا بسبب انتفاضة ٢٠١٩ كما يحلو لأصحاب السلطة القول، بل كان نتيجة سياسة تاريخية مارستها السلطة السياسية منذ تأسيس الكيان.

لم يعمل أصحاب السلطة على بناء دولة لكل المواطنين منذ عام ١٩٢٠، بل حافظوا على إبقاء مسافات بين المكونات الاجتماعية والطائفية، وتم الاتفاق على تجديد النظام السياسي الطائفي، عبر صيغة جديدة تقضي بإعطاء امتيازات لأقوياء احدى الطوائف على حساب الاخرين. بعد عام ١٩٥٨ حاول الرئيس فؤاد شهاب بناء دولة قانون ومؤسسات لكنه فشل لتوهمه إمكانية بناء دولة قانون ومؤسسات من داخل النظام الطائفي نفسه.

وبعد اتفاق الطائف توصل اطراف السلطة الى نظام سياسي جديد يعتمد المحاصصة بين أقوياء الطوائف، ورسم سياسة اقتصادية جديدة تعتمد على الريع وتهميش القطاعات الإنتاجية وتحالفوا واستخدموا النظام المصرفي بطريقة تسمح لهم بالاستفادة المالية في مختلف جوانب الحياة. وبدأ الانهيار بالتسارع وهو مسار طبيعي لسلطة سياسية تستفيد من المواقع السلطوية الموجودة وعلى حساب المواطنين.

نجحت السلطة في سن قانون انتخابات جديد عام ٢٠١٧ افسح في المجال امام أقوياء الطوائف لتقاسم السلطات فيما بينهم، لكنهم مارسوا العجز في إيجاد الحلول للناس في الميادين المختلفة، وهذا ما دفع الناس للنزول الى الشارع ورفع شعار “إسقاط النظام الطائفي”، وشعار ” كلن يعني كلن”.

واليوم، وبعد أربعة أعوام على ذكرى الانتفاضة، الوضع الاقتصادي ينهار يوميا، الزراعة الى تراجع كبير، ولا وجود لصناعة منتجة، ولا قطاعات إنتاجية تسمح للناس العيش بكرامة.

على الصعيد الاجتماعي، معظم الدراسات تشير الى ان نحو ٨٠ بالمائة من الشعب اللبناني تحت خط الفقر، وسياسة السلطة الاجتماعية تحول الناس الى “شحاذين”، والمشكلات العائلية الى ازدياد بسبب الأوضاع الاقتصادية، وتزيد الهجرة وخصوصا في وسط الشباب، الى جانب ارتفاع محاولات الهجرة غير القانونية، اما التعليم فيبدو اننا باتجاه الأمية للناس، وجعل التعلم حكرا على الأغنياء فحسب، والجامعة اللبنانية التي شكلت مساحة مشتركة بين اللبنانيين الى انهيار، والقضاء فهو حسب الطلب ولمصلحة اقطاب السلطة. على الصعيد المالي، لا خطة لاستعادة أموال المودعين بل خطوات تسمح لأصحاب المصارف، وبينهم الكثير من أصحاب السلطة بالاستيلاء على أموال المودعين وفق قوانين تشرع ذلك.

اما على الصعيد السياسي، ما زال أقوياء الطوائف يمسكون بأبناء طوائفهم ويبحثون عن محاصصة جديدة تتيح لبعضهم مزيدا من قالب الجبنة. وكلهم لا يملكون توجها لحل مشكلات الناس.

انتفض الناس في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، لكن القوى التي تطلق على مجموعاتها اسم تغييرية لا تملك رؤية ولا خطة للتغيير.

الأحزاب التي تطلق على نفسها أحزاب يسارية او وطنية، لكن في الممارسة العملية لم تحافظ على الاستقلالية المطلوبة لأي فريق يسعى فعليا للتغيير.

ولم تستطع مجموعات الانتفاضة الاتفاق على رؤية واحدة وخطة وبرنامج للخروج من الأزمة، وأول موقف مطلوب منها الاتفاق ان لا حل في ظل النظام الطائفي القائم.

النظام الطائفي في أزمة يفتش عن حلول من داخله وصار هذا من المستحيلات، وقوى الانتفاضة لا تملك برنامج ديمقراطي بديل.

الى ماذا يؤشر ذلك، نحن نتجه الى فوضى مناطقية، كل منطقة يتحكم بها قوي من طائفة معينة حسب المقيمين في المنطقة، اما المناطق المختلطة فتشهد توترات وسعي من أقوياء الطوائف اللصيقة للامساك بمقدرات المنطقة المحددة. ان ما نراه هو بسبب أزمة النظام الطائفي، وهذا ما سيؤثر على الكيان نفسه.

والسؤال المطروح حاليا، كيف نبني مساحات مشتركة بين اللبنانيين وفق المصالح المشتركة ليكون ذلك مدخلا لرؤية تغييرية للخروج من النظام الطائفي القائم على نهب البلد.

اخترنا لك