على بوابة الوطن “دهاليز الخيام”

رواها داوود فرج وكتبتها أميرة الحسيني - إصدار الحركة الثقافية للبنان الجنوبي – 1998

بقلم الأستاذ صخر عرب

عمل أدبي من 330 صفحة، ينتمي إلى نوع جديد “غير مسمى” من الأعمال القصصية. هو مزيج من السيرة الذاتية أو السيرة الروائية، وأدب المعتقلات (والسجون السياسية) وربما أدب الرعب؟ وأدب النضال والكفاح والصمود والصراع لأجل البقاء والحرية.

إنّه تصوير حيّ لحقبة من نضال الجنوبيين – وباقي اللبنانيين- ضد الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة المحاذية للحدود، والتي اصطُلِح على تسميتها بالشريط الحدودي، ولمعاناة أهالي تلك المنطقة التي سُلخت عن الوطن وأُقيم فيها نوع من السلطة تأتمر بالجهات المحتلة. وتفصيل لمعاناة الناس وعذاباتهم في التنقل وحلمهم بالخلاص من الاحتلال.

يسلط داوود فرج الشخصية الرئيسية الضوء على كفاح ونضال وتضحيات مجموعة كبيرة من الشبّان الذين ناضلوا تحت لواء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، المتشكلة من الفئات الوطنية- القومية واليسارية والشبّان المستنيرين، الذين حلموا بوطن حرّ وسيد وعادل.

في الرواية تمتزج المشاعر بين السخط على جماعة الاسرائيليين أو “جيش لبنان الجنوبي” أو ” العملاء”، وتصوير ما يقومون به تجاه أبناء منطقتهم وتجاه المكافحين المقاومين للاحتلال، والنفور منهم ، وبين الرغبة بالخلاص، وتصف حالات الشعور نحو تلك الفئة( الضالة) من اللبنانيين، وعدم الرغبة بإيذائهم مهما تطور مآل الحال والأحداث، فتبرز هنا الناحية الإنسانية العميقة التي استطاع الراوي (داوود فرج ) إظهارها بكل براعة وشفافية، ليؤكد لأولئك السجّانين أنهم هم مواطنون لبنانيون ولا يضمر لهم الشباب المكافح أية نوايا معادية أو رغبة بالانتقام.

ينقسم العمل إلى ثلاثة أجزاء: مرحلة القاء القبض على الشخصية الرئيسة على يد أحد المتعاملين، المشهور في المنطقة بسجله السيء والإجرامي المشين، وسوقه إلى سراي بنت جبيل، الذي تحول إلى سجن كبير، بعد تلفيق تهمة له، وتعذيبه. وفي الجزء الثاني يساق داوود إلى معتقل الخيام الشهير، الذي أُقيم مكان ثكنة للجيش اللبناني، وطريقة عيش الأسرى من شبّان وبنات، وأساليب التعامل معهم وتعذيبهم بكافة وسائل القمع لا سيما القديمة الشرسة بهمجيتها. وفي الجزء الأخير القصة الجميلة، الرائعة عن الهروب الكبير بقيمته، الصغير بعدده، المثير بغرابته وتفاصيله، وبراعة من قام به.

امتزجت السرديات بالحياة بالصبر والتحمل والتصميم. تذكرت وأنا اقرأها أولئك الأبطال الأسطوريين الذين عانوا من الوحدة والصعوبات وصبروا، “أوديسيوس بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن ملك اليمن، وروبنسن كروزو لدانيال ديفو والكونت دي مونت كريستو لألكسندر ديماس الأب”، وصبرهم وتحملهم ومعاناتهم ووحدتهم في العذاب والأهوال، وكيف صنعوا من الضعف قوة ومن اليأس شجاعة ومن الإحباط عزما وإرادة.

ربما كان الفارق أنّ أولئك الأبطال وسواهم، الذين سحروا الناس ببطولاتهم وذكائهم أشخاص خياليون، أو حقيقيون ولكن أُضفيت عليهم صفات خارقة وبطولات عظيمة، وأما أبطال معتقل الخيام فبسطاء وإنما حقيقيون، وحقيقة انجازهم الكبير أمر ثابت وحاصل ملأ الدنيا وشغل الناس عام 1992، وقد استطاع داوود فرج الراوي(والشخصية المحورية) واستطاعت أميرة الحسيني تصويرهم في نصّ أدبي جميل. ولكن في كلتا الحالتين يستمد القارئ فتىً كان أم راشدًا، مقومات العزم والثبات والتمسك بهذه الأرض، والبحث عن وطن جميل يصبو إليه الانسان اللبناني، وبل التمسك بالحياة.

لقد جعلني الكتاب أتعاطف مع داوود فرج ابن قرية عيناتا قضاء بنت جبيل المولود ايام القصف والتهجير والعودة ، وأحسّ أنا اللبناني الجنوبي معاناته وعذاباته، وأتعاطف مع زملائه ورفاقه الذين ضحّوا وقدموا الكثير، لا بل قدموا كل شيء، مرورًا بالقتال والتعب وانتهاءً بالقتل، أو الاعتقال أو ضياع العُمر والسنين، واحزن لما عانوا منه، وكما افرح وابتهج لمّا يتخلصون من مأزق ما، وصعوبة وورطة وأخطار تعرضوا لها في تلك الأيام الصعبة، حابسًا أنفاسي، متعاطفًا مع حالتهم وآلامهم وأمالهم.

استطيع القول إنّ (على بوّابة الوطن “دهاليز الخيام”) عمل فكري وأدبي مليء بحوادث الخوف والقلق والتوتر والرعب والإثارة، لكن بأسلوب عالِم النفس داوود فرج، ومكتوب من صميم معاناته وبكل صدق، وهذا ما يظهر من بين الكلمات والأفكار والأحاسيس، ولكنه عالم الأمل والفرح، وعالم الفرج بعد الشدّة.

برغم قدرة الراوي على سرد التفاصيل والأحداث، فقد تمكن وبمساهمة الكاتبة اميرة الحسيني من تقديم نص وطني انساني أدبي غاية في الروعة والجمال وعالي القيمة، كما استطاع أن يبرز – وباكرُا- قدرته على التحليل النفسي للأشخاص، وهي المهنة التي تعلمها بعد تحرره من المعتقل واكمال دراسته الجامعية بالخصوص، ويمارسها حاليا في مدينة صور بجدارة ومهارة.

إنّ هذا الكتاب رغم بساطته وعفويته، يسلط الضوء على مرحلة من تاريخ هذا الوطن، وعلى فئة من الشباب الطموح، لم تنل حقها من التقدير المعنوي ولا حتّى حظّها المادي كما يتوجب على الأمم، ولا أيضًا من الجهات المثقفة والجهات الأدبية كما ينبغي وكما تفعل الأمم السائرة في طريق النور والحرية والتقدم والبناء والرقي والحياة.
التحية لمن ساهم بإبراز هذا النص الجميل.

وتحية للبنانيين كافة، في عيناتا بنت جبيل جنوبًا، الحدودية المشهورة بأشجار العنب والزيتون وشتلة التبغ، وكما في عيناتا الأرز المرتفعة شمالا المتميزة بأشجار التفاح والسنديان والأرز، وفي كل لبنان، ذلك البلد الجميل والغالي.

اخترنا لك