انتفاضة ١٧ تشرين، بين القراءة الموضوعية وجلد الذات

بقلم محمد فران – قيادي سابق في منظمة العمل الشيوعي

ناشط في منتدى صور الثقافي وفي انتفاضة ١٧ تشرين

لم تأت انتفاضة ١٧ تشرين من العدم، وإنما جاءت نتيجة لتراكم عدد من التحركات المتقطعة ولكنها متصلة، حملت مطالب قطاعية خاصة و مطلبية ووطنية عامة تتعلق بالأجور والحريات والديموقراطية والعلمانية ومكافحة الفساد، الخ.

إلا ان انتفاضة تشرين كانت الاشمل و الاوسع جغرافيا وطائفيا مستفيدة من صراع وتسابق أهل السلطة على نهب أملاك الدولة وثرواتها وترسيخ نظام المحاصصة فيما بينهم وتدهور شتى أنواع الخدمات الخ.
 
وقد فاقم هذا الوضع تخلي المنظومة الحاكمة عن سيادتها وعن صون حدودها وتوريط البلد في حروب خارجية لم تدر علينا سوى الدمار والخسائر وكثرة الأعداء من عرب وأجانب. في ظل هذه الأوضاع انبثقت انتفاضة تشرين حاملة  مطالب مختلف المنتفضين وفق أولويات متنوعة حملتها طلائع متنورة ومثقفة ابتعدت عن طوائفها وحملت مصلحة الوطن كما تراها كل جماعة منها واحتفل المنتفضون بتجمعهم و بوحدتهم بمواجهة المنظومة الفاسدة فكانت انتفاضة سلمية راقية تصدت لقمع السلطة  وميليشياتها بالصدور العارية فسقط شهداء وجرحى في التصدي لإرهاب السلطة واستدراج الانتفاضة إلى العنف.

وبعد صمود طويل بمجابهة السلطة ووباء الكورونا، تمكنت المنظومة الحاكمة من استرجاع جماعات من المنتفضين إلى طوائفهم بالقمع والحصار وتهديد لقمة عيشهم وتجييش العداء الطائفي.

وقد تزعم الثنائي الشيعي عملية مواجهة الانتفاضة حيث تخصص أحدهما بالقمع الجسدي يساعده الطرف الآخر عند الضرورة وتخصص الآخر في تشويه سمعة المنتفضين وتخوينهم وتنسيب انتفاضتهم إلى سفارات والى أعداء هم أبعد الناس عنهم.

وكان لهذا الدور والى شبه اقتصار استقطاب الانتفاضة للطبقة الوسطى الى صفوفها  دون التمكن من استقطاب الفئات الشعبية ، وغياب دور النقابات العمالية والزراعة  وروابط المعلمين والطلاب والاتحاد العمالي العام وشتى الهيئات التمثيلية لمختلف الفئات، و التحاق هذه الجهات، بمعظمها، حيثما وجدت بأحزاب السلطة، والعمل  لصالحها، دور أساسي في انكشاف الانتفاضة. دون أن ننسى ان  الأحزاب باتت بمعظمها أحزابا سلطوية، أو هامشية أو متأرجحة بين معارضة للمنظومة وموالاة لبعض أحزابها.

وقد التبس على البعض التمييز بين المقاومة الوطنية اللبنانية بعمقها الثقافي والوطني الشامل، والمقاومة الإسلامية وجهها المذهبي ومرجعيتها الخارجية، فاعتبروا ان الثانية هي امتداد للأولى، فتجنبوا أي نقد لها واكتفوا بالسكوت و تلقي الصفعات والاتهامات منها دون توجيه الرد المناسب الذي يفضح الخصم ويشد ازر الحليف.

إضافة لواقع يجب أن لا يحجب عن وعينا  أن معظم الطائفة الشيعية والطائفة الدرزية وجمهور التيار الوطني الحر وحلفائه كانوا ضد الانتفاضة، كما ان ضياع الجمهور السني و تأرجحه بين المعارضة ضمن السلطة وضمن الانتفاضة وبين الموالاة جعل مشاركته ملتبسة ودون المستوى المتوقع. هذا الواقع حرم الانتفاضة من عمقها الشعبي، ومن التوسع والاستمرار وتحقيق بعض مطالبها… هذه هي الأسباب الفعلية لعدم استمرار الانتفاضة وتحقيقها لأهدافها.

أما الحديث عن ثغرات الانتفاضة ، مثل عدم وجود قيادة وعدم وضع سلم  أولويات للمطالب، ونزعة التزعم والاستقلال لدى البعض، فجميعها صائبة ولكنها تبقى هامشية وغير مقررة، والتركيز عليها ما هو إلا جلد للذات وتضخيم للعوامل الذاتية على حساب وعينا للواقع الموضوعي.

أما نقد شعار ( كلن يعني كلن ) فهذا يتطلب بعض التدقيق. والتدقيق يطال المضمون كما يطال الامكانية. في المضمون أين الخطأ في تحميل ما آلت اليه أمور البلد إلى الجميع ؟ ( كلن يعني كلن ) ومن يعتقد ان هناك من لا يتحمل المسؤولية من هذه العصابة الحاكمة فليعلن عنه صراحة.

هل الرئيس سعد الحريري، والسيد وليد جنبلاط أبرياء ؟ هل القوات اللبنانية بريئة من تهمة توصيل الرئيس عون إلى سدة الرئاسة ضمن صفقة معلومة ؟ ألم يؤمن الحريري وجنبلاط النصاب لنيل حكومة حسان دياب الثقة مشترطة ان يتبنى هذا الأخير مشروع الحريري الاقتصادي الذي وقفت الانتفاضة ضده ؟.

إن الاكتفاء بتحميل مركز الحكم ( الحزب والعونيين ) المسؤولية كاملة لوحدهم هو مثل تحميل حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة مسؤولية الانهيار لوحده. وهذا فيه حجب لمسؤولية المنظومة مجتمعة، ولو بتفاوت، للمسؤولية. الاستيلاء على قطاعات البلد المنتجة من نفط واتصالات و… بدأت قبل الحزب والعونيين، وكل ما فعله الأخيران هو الانضمام إلى نادي أكلة قالب الجبنة بأمعاء خاوية وأفواه كبيرة لتعويض ما فاتهم.

وهكذا تمكنا من المساهمة النشطة مع من سبقهما في هدم أسس الدولة بمعاول اكبر وهمة أشد. اما اذا كان القصد من نقد هذا الشعار هو تأثيره على التحالفات في الانتخابات الأخيرة فهذا بحاجة أيضاً إلى تدقيق لمعرفة إذا كان له أي تأثير سلبي على النتائج في ظل اتفاقات من تحت الطاولة بين بعض هذه الأطراف مع أطراف من المنظومة. كما التدقيق في إمكانية عقد هكذا تحالفات دون التأثير السلبي على وحدة المعارضة في حينه.

أما من حيث الإمكانية فعلى المنتقدين التدقيق في قدرة قوى الاعتراض على اقتصار نقدها على الثنائي الشيعي وحلفائه وحدهم، وخاصة حيث التواجد الشيعي الكثيف، في الجنوب والبقاع، ومدى تأثير ذلك على وحدتنا، وانكشافنا واظهارنا بمظهر اننا لسنا ضد الفساد وإنما ضد سلاح المقاومة فقط.

وفي المحصلة، لا بد من الاعتراف أننا رغم الكثير مما حققناه من تعرية وفضح واضعاف لهيبة العصابة الحاكمة وسطوتها، الا اننا انهزمنا في معركة تحقيق المطالب الحياتية، ومحاسبة المرتكبين واسترجاع الأموال المنهوبة.

نعم لقد فشلنا ويدفع ثمن فشلنا الناس وأغلبهم من جمهور العصابة الحاكمة. وهذه النتيجة على سلبيتها ستؤسس لمعارضة أوسع اذا أحسنا تنظيم صفوفنا وتوسيع قاعدة اتصالاتنا، آخذين بعين الاعتبار المستجدات التالية :

قدرة المنظومة الحاكمة على الاستمرار في تقديم الرشاوي إلى جمهورها في ظل الأزمات المعيشية وتراجع عائدات الدولة.

قدرة المنظومة الحاكمة على توزيع شهادات الوطنية والخيانة بعدما فرطت بثروة لبنان البحرية من غاز ونفط تحت شعار مقاتلة اميركا وإسرائيل بينما المنتفضون والنواب التغييرين، ( عملاء السفارات ) يرفضون المطالب الأميركية والإسرائيلية، ويتمسكون بالخط البحري ٢٩.

انفضاح ادعاءات بعض أقطاب المنظومة بأنها سترفض تحميل الناس أي ضرائب تطالهم في الوقت الذي يشرعون الضرائب والرسوم على كل شيء.

ستكشف الأيام القادمة للمودعين ان أموالهم قد نهبت وان أموال قادتهم قد هربت.

وستستمر قوى المنظومة في دفع مختلف القطاعات والخدمات الى الانهيار، وهذا سيزيد من افقار الناس إلا ان ذلك سيتطلب جهودا جبارة لكي يتحول الناس الى منتفضين بدلا من تحولهم الى شحاذين وازلام للحكام…

أخيراً، علينا الحذر من الاستمرار في تيئيس الناس عبر تحميل النواب التغييريين مسؤولية كل المشاكل وتوهم ان بإمكانهم تغيير الأوضاع ولكنهم يتلكأون. كفانا تحميلهم مسؤولية ما عجزنا نحن عن تحقيقه وهو توحيد القراءة السياسية للواقع الراهن وبناء سياساتنا على هذا الأساس.

كفانا تصور بأن نوابنا التغييريين يتحكمون بانتخاب رئيس الجمهورية كما يدعي الدكتور سمير جعجع. الجميع يعلم ان انتخاب رئيس الجمهورية كان ولا يزال يتحكم فيه الخارج الغربي و العربي، بنسبة كبيرة والآن أضيف إليه الإيراني، وبسبب التوازنات الراهنة في المجلس النيابي فإن أحدا لا يمكنه فرض مرشحه والخيار المتاح هو بين رئيس توافقي أو عدم انتخاب رئيس إلى ان يتفق عليه الخارج. فحتى ولو انضم النواب التغييرين الى مؤيدين لانتخاب المرشح ميشال معوض فإن الممانعين سيطيرون النصاب ويمنعون انعقاد الجلسة.

فكفى تلهي بالقشور وكيل التهم والأوصاف بحق نوابنا التغيريين. فيكفي ان كلا التيارين الممانع والسيادي يقومان  بهذه المهمة. لنكن جميعًا الحضن الحامي لهم ومساعدتهم في قراءة الأوضاع واقتراح الحلول.

فلنشجعهم ونساعدهم على الوحدة والتنسيق مع آخرين وخاصة مع الدكتور أسامة سعد وسواه من الذين تتقارب المواقف معهم. وإذا تعذر المحافظة على هذه الوحدة، فليستمروا في إطار تنسيقي حتى ولو انقسموا أو انفرط عقد وحدتهم.

من المؤسف ان الإعلام يركز على أقل خلاف في صفوف التغييريين، ولا يلتفت إلى رفض انعقاد المجلس النيابي لمناقشة الترسيم البحري ؟

يركزون على التباينات في صفوف التغييريين لصرف الأنظار عن صفقات تعقد بين الممانعة والغرب، بينما السياديون غائبون عن ملفات سيادية، كالترسيم البحري مع العدو، وكأنه ملف غير سيادي…

بهكذا وعي نكون مخلصين لذكرى ١٧ تشرين بعد ثلاث سنوات على ذكرى انطلاقتها.

اخترنا لك