انتفاضة ١٧ تشرين… نقطة تحوّل

بقلم إياد الخليل – أستاذ جامعي وباحث

“لا يمكن على أية حال تحقيق الاستقرار الثقافي وخلق فكر عضوي ما لم توجد بين المثقفين والبسطاء ذات الوحدة التي ينبغي أن تكون بين النظرية والممارسة. أي ما لم يصبح هؤلاء المثقفين العضويين لتلك الجماهير، وما لم يصوغوا المبادئ والقضايا التي تثيرها الجماهير في نشاطها العملي صياغة محكمة، وبهذا يشكلون كتلة ثقافية واجتماعية… ينبغي لأية فلسفة للمارسة أن تتخذ في البداية، صورة السجال والنقد، باعتبارها تجاوزا لطريقة التفكير السائدة” { من رسائل السجن لأنطونيو غرامشي }


شكلّت انتفاضة 17 تشرين الشعبية العفوية منعطفا مهما في الحياة السياسية الحديثة في لبنان، فرض فيها الشعب اللبناني نفسه في المعادلة السياسية لأوّل مرّة منذ انتهاء الحرب الأهلية، بعد اقصائه من قبل امراء الحرب وملوك الطوائف وزعماء الميليشيات المتحالفين مع حيتان المال وأصحاب المصارف، او باختصار الأوليغاركية المجرمة والفاسدة التي استولت على السلطة والدولة وسخّرت مقدراتها لمصالحها الخاصة على حساب الصالح العام. فكرست النظام السياسي الطائفي المذهبي والزبائني ونظاما اقتصاديا رأسماليا متوحّشا وريعيا هشّا، يقوم على التدفقات المالية وعلى الدعم الخارجي وينهار مع توقفها.

وحّدت لحظة 17 تشرين الشعب اللبناني، حيث تجاوز الانقسامات المذهبية والطائفية والمناطقية ولو لفترة وجيزة، حول مطالب محقّة ومبادئ أساسية كرّسها الدستور من العدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية بين المواطنين ( التي تشمل المساواة السياسية والاقتصادية ) والإنماء المتوازن، وحرية التعبير والحقّ في التظاهر ومعارضة السلطة وسياساتها. فأسقط الشعب لأوّل مرّة حكومة “وحدة وطنية” ضمّت جميع “الأحزاب الحاكمة” من حركة امل الى القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل وحزب الله والتيار الوطني الحر.

بذلك تكون انتفاضة 17 تشرين قد شكلّت نقطة تحوّل مفصلية في الحياة السياسية يتوحّد فيها الشعب اللبناني متجاوزا الانقسامات المذهبية والطائفية والمناطقية. شعرت المنظومة الحاكمة لأوّل مرّة منذ نهاية الحرب بأنّها لا تستطيع أن تتجاوز الشعب من الآن وصاعدا، وأنّ وحدته تعرّضها للسقوط. فسعت الأطراف المختلفة للمنظومة الحاكمة ونجحت الى حد بعيد في ضرب الانتفاضة وتشتيتها، بعضها من خلال التخوين والقمع والترهيب والبلطجة.

والبعض الآخر الذي يشكّل ركنا أساسيا من المنظومة المجرمة والفاسدة واستقال قبل أيام من السلطة في عملية خداع ونفاق سياسي، ركب الموجة واندّس في هذه الانتفاضة وحوّر الكثير من شعاراتها ومبادئها الأساسية وقلب الأوليات لتتناسب مع تبعيته وولاءاته الخارجية واستغلها لحساباته الانتخابية، وحرّفها عن مسارها الأساسي لتصبح جزأ من صراعات إقليمية ودولية لم تكن تشكّل أولوية الانتفاضة مطلقا.

وعلى أهمية مشهد 17 تشرين لا يمكن أن تتوقف عنده الحياة السياسية، انما يمكن ان يشكّل جسر عبور من النظام السياسي الطائفي والزبائني المتخلّف إلى نظام سياسي مدني عصري يقوم على المواطنة والكفاءة بدل الطائفية والمذهبية والزبائنية. و ان يشكّل جسر عبور من نظام إقتصادي رأسمالي جشع وريعي هشّ يطغى فيه القطاعين المصرفي والعقاري فينهار عندما تتوقف التدفقات المالية الخارجية، الى نظام اقتصادي يقوم على قطاعات إنتاجية حيوية ذات قيمة مضافة مرتفعة كالتصنيع والتكنولوجيا والمعرفة والزراعة قادر على توفير فرص عمل وفيرة للبنانيين وحد مقبول من الأمن الغذائي والاقتصادي بدل البطالة والفقر وانهيار الخدمات العامة، يعتمد على تصدير السلع والخدمات بدل تصدير رأس المال البشري وهجرة الأدمغة وادمان التمويل الخارجي، ويسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والى بناء شبكات امان اجتماعية وصحية لاسيما للشرائح الضعيفة والهشّة في المجتمع، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي.

لكن طريق العبور هذا ليس خطا مستقيما إنما طريق شاق وطويل وكثير التعرجات، سوف يتخلله الكثير من الأخطاء والمطبات والإحباط، فالثورة ليست حدثا إنما صيرورة.

أهم ما في انتفاضة 17 تشرين أنها عبرّت عن رفض شعبي عارم للسلطة والمنظومة المجرمة والفاسدة، عابر للطوائف والمذاهب والمناطق في مشهد لافت للوحدة الشعبية. وهذا تحديدا اكثر ما أخاف أطراف السلطة والمنظومة اللذين يستمدون شرعيتهم الفعلية من النظام الطائفي المذهبي والزبائني الريعي، فسعت ونجحت إلى حد بعيد في إضعافها وتشتيتها وتقسيمها كما يبدو واضحا مما حصل مع مجموعة ال13 النيابية التغييرية.

علما انّ انتفاضة 17 تشرين كانت تعرف ماذا لا تريد اكثر من ماذا تريد، وفشلت في وضع أو صياغة برنامج واضح وبناء يتجاوز الشعارات ويحدد الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تريد تحقيقها، وان تقسمها إلى أولويات بحسب أهميتها وبحسب ما يمكن تحقيقه على المدى القصير او المتوسط، وما يحتاج إلى المدى الطويل. الأمر أصبح يحتاج إلى نقاش عميق وحتّى دراسات وابحاث للخروج ببرامج جدّية تلبي تطلعات الشعب وتكون واقعية في نفس الوقت.

وعلى الأرجح سينبثق عن ذلك أكثر من برنامج يعبّر عن الشرائح الاجتماعية والطبقات المختلفة التي يتكوّن منها المجتمع، وهذا أمر طبيعي ومطلوب أفضل من ان يطغى العمل الإعلاني والدعائي المدعوم برأس المال والشعارات الفضفاضة دون برنامج واضح وخطاب اليمين الأقرب الى مصالح المنظومة على حساب تراجع خطاب اليسار التقدمي والتغييري الأقرب إلى تطلعات ومصالح الشعب دون الوقوع في فخّ الشعبوية.

الأمر الذي من شأنه ان يؤدي إلى تحوّل بعض المجموعات إلى مراكز أبحاث ونشر للأفكار ولثقافة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة تشكّل حجر الزاوية في الثورة وتطيح بالثقافة السائدة وتقدّم برنامجا وطنيا بعيدا عن التبعية للخارج والعشائرية والزبائنية، يؤسس لبناء مجتمع جديد تكون أولويته توفير العيش الكريم والمستقر للشعب.

اخترنا لك