“كلّن يعني كلّن”…

مشروع ذاكرة بقلم علي خليفة

أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية – كلية التربية

إنه الشعار الأقوى والأصدق والأخطر الذي أنجبته انتفاضة 17 تشرين المجيدة من رحم المعاناة والظلم والترهيب. وتردّدت أصداؤه على امتداد البلاد، فإذ بها تعبر أول ما تعبر حواجز الخوف المسقط والهالة المصطنعة حول بعض الشخصيات… “كلّن يعني كلّن” غالبًا ما كانت تُستكمل بعبارة “وفلان واحد منن”… “وزعيمي واحد منن” و”زعيمك واحد منن”… وتتمدّد مضبطة الشعار الجارف لتشمل حتى آخر بروتوس في المنظومة السياسية اللبنانية ممّن سوّلت له نفسه المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في الفساد أو سوء الحكم أو الجريمة أو العمالة أو الارتهان… جميعها على حد سواء وبلا مفاضلة. واليوم، بعد توالي الأزمنة، ماذا كان في أصل هذا الشعار ونشوئه؟ كيف تطوّر وهل لا يزال صالحًا؟ أين الصواب اليوم في “كلّن يعني كلّن” وأين الخطأ ؟ وهل يتحوّل هذا الشعار السامي إلى فلكلور عقيم يأسر التغيير المنشود ؟

زمن المشروعية الثورية

كقول السيد المسيح “أترك كل شيء واتبعني وأنا أكون لك نصيبًا” هكذا كان شعار “كلّن يعني كلّن” عند انطلاقه في ساحات المدن اللبنانية العارمة بالاحتجاجات وفي صدور الناس العامرة بإرادة وتصميم لا سابق لهما. أترك زعيمك واتبع الثورة، بل واجبٌ عليك نكران زعيمك في سبيل استحقاق شرف المشاركة في الثورة الناشئة. لكن ما ينبغي استذكاره على وجه الخصوص هو أن شعار “كلن يعني كلّن” ارتفع تحديدًا بوجه من ادّعى زاعمًا أن حزب الله ليس من المنظومة وأمينه العام ليس في عداد المطلوب نكرانهم كباقي الزعماء وهو بالتالي بمنأى عمّا يحدث.

رفضت الثورة على الأعم استثناء حزب الله من المنظومة وأمينه العام من المسؤولين المشار إليهم بالبنان. فتسابق التماع وهج الشعار واشتداده مع التحريض على الثورة واتّهام من فيها بالعمالة وبتنفيذ أجندات أجنبية من قبل مسؤولي حزب الله وجمهوره. ولم يكن ما يحدّ الجذرية الثورية وصولاً إلى نصب المشانق في وسط بيروت وتعليق مجسّمات رموز المنظومة السياسية كلّن يعني كلّن وحسن نصرالله واحد منن. هكذا هي الثورات، تطيح بالجميع بلا مفاضلة فيما لو قدّر لها النجاح، فتفرض واقعًا بديلاً عن الواقع القائم وتفرض معاييرها المرجعية وأحكامها الناظمة.

ولكن 17 تشرين ضمرت وتعثّرت واغتالها حزب الله على عاتقه بالتكافل والتضامن مع عدة أفرقاء وبالنيابة عنهم. 17 تشرين لم تحقق أكثر ممّا استطاعت إليه سبيلا. وأبقت عددًا من الإخفاقات والشعارات نعود إليها بعد غيبة. تفتقد الإخفاقات، إذا ما نظرنا إليها بعيون اليوم، لإعادة تشكّل العوامل والظروف التي تحوّلها إلى نجاحات… وتفتقد الشعارات التي انطلقت زمن الثورة، إلى المشروعية الثورية التي لا تستطيع أن تفهمها إلا من خلالها ولا تستطيع أن تستمرّ بها إذا ما توقفت الثورة.

زمن الفلكلور العقيم بمواجهة مقتضيات الواقع

عندما لم تأخذنا الثورة إلى واقع حال مغاير، فإن الشعارات التي كانت معدّة للعبور إلى زمن لاحق تراها لا تزال أسيرة واقع حال قائم لم ينتهِ بعد. نظريًّا، لم يعد الثوار مصدر الشرعية للمضبطة الاتهامية بحق كل رموز السلطة السياسية على حد سواء ودون النظر إلى ظروف تخفيفية للبعض أو ظروف للتشدّد بحق البعض الآخر.

فأصبح لا بد من إعادة قراءة المشهد والتموضعات مع تغيّر الحقب الزمنية ولا بد من تحديد المسؤوليات كلّ منها بمقدارها النسبي، لا الحكم فيها بشكل مطلق وإجمالي. فمن كان فاسدًا ظرفيًا ليست مسؤوليته كما المنغمس بالفساد بشكل ممنهج وبلا انقطاع، ومن كان أداؤه في السياسة محط انتقاد ليس كمن يصادر أدوار الدولة في الدفاع والأمن. ومن كان مرتهنًا لطرف خارجي ينال منه التمويل والسلاح ومصدر الإمرة ليس كمن يقيم علاقة بمستوى أقلّ من التبعية والنفوذ للخارج.

وهكذا يصبح القياس والتحديد موجبًا. وتقدير حجم المسؤوليات مطلوبًا للمفاضلة بين الأطراف والعمل على أساس تقديم الأولويات. بالمقابل، يحملنا التعامي عن ذلك إلى ما هو أدهى وأمرّ، بحيث يصبح التمسّك بشعار “كلن يعني كلن” اليوم بمثابة وكالة تضع الجميع على قدم المساواة الواحدة بالفعل في ذاته بمعزل عن مقدار الفعل نفسه، فإدانة الجميع تصبح سيان مع تبرئة الجميع على حد سواء، بدلاً من محاسبة الأكثر فسادًا بينهم أولاً، أو مناصبة الخصومة لمن يقترف الجريمة الأكثر شناعةً بحق الدولة والمواطنين. فيصبح هذا الشعار بمثابة الحجر الذي يحول كبر حجمه دون إمكانية رفعه من مكانه. فيحملنا ذلك على تمديد واقع الحال القائم وخسارة أي فرصة حقيقية للتغيير بفعل عدم توافر العوامل لإحداث الانتقال المنشود. من الأسئلة المشروعة في هذا السياق، هل حزب الله أولى بالمواجهة معه على قاعدة المفاضلة في ما يقترفه قياسًا مع باقي الأحزاب؟

فحزب الله ينفرد بمصادرة أدوار الدولة في الدفاع والأمن، ويقيم أنظمة موازية للدولة في الاقتصاد والمال والمجتمع والتربية والصحة والاستشفاء والقضاء… أليس من الأحرى مواجهته قبل سواه وبقدر من المسؤولية التي لا يتحملها سواه من الأفرقاء؟ وما استجرار شعار “كلن يعني كلن” في هذا السياق سوى لمنع مسار التغيير من الانطلاق، تحت حجة عدم الإرضاء بتحييد فرقاء كانت مسؤولياتهم أقل، بحسب كل حقبة، أو التعاون معهم والبقاء أسرى أفكارٍ مسبقة عن بعضنا البعض ونحيا مكبّلين بقيود تجعلنا نراوح مكاننا وتبقينا بعيدين عن إحداث أي خرق.

قد يأخذ شعار “كلن يعني كلن” كل المشهد زمن المشروعية الثورية أو يفرغ من فحواه عن حسن أو سوء نية بموازاة مقتضيات واقع العمل السياسي، فيصبح الشعار في ذاته غريبًا عن أصله ومنقلبًا على غايته، فيمنع التغيير الذي انطلق في سبيل تحقيقه ويغرق أسير استخداماته الخاطئة.

اخترنا لك