حسين ماضي مَنَحَنا فراديسَه فلتزفّها الكلمات ولتتلمّظ بها الرغبات ولتعزف لها الموسيقى لحن الخلود (1938 – 2024)

في مقدور الحصان أنْ يصهل ويحمحم، على صهوته المرأة العابثة وفي فم الديك والعصفور ألوان الحرّيّة

بقلم عقل العويط

مرحبا أيّها القرّاء. أريد أنْ أحتفل بحسين ماضي، لا أنْ أرثيه أو أودّعه (1938-2024). خمسون ستّون سبعون عامًا من تجارب فنونه، رسمًا ونحتًا ولصقًا وكولّاجًا، هي معنا تحتفل. وهو معنا. فأعيروني انتباهكم قليلاً. القليل من الانتباه، فقط لا غير. ثمّ افعلوا ما تشاؤون. وإذا أردتم، عودوا إلى حياتكم إلى عائلاتكم وأعمالكم وإلى متابعة هموم الشأن العامّ وتفاهة رجال الحكم والمال والسياسيّين والحياة الرخيصة.

نساء حسين ماضي، كلّهنّ هنا. عصافيره جاءت معنا إلى الحفلة. والهررة والأحصنة والثيران والزهور والزيوح والخطوط وأشكال الجمال الحقيقيّ والافتراضيّ. والديكة. تأمّلوا الديكة أيها القرّاء. وصفِّقوا للساحر حسين في عيده.

حسين ماضي ما غيره، “سارق النار”، والنار هي ذكاء اللون كلّه، وذكاء الشكل كلّه، وذكاء الأسلوب كلّه، وذكاء الجمال كلّه. تأمّلوا حسين ماضي هذا معي. إرفعوه. إرفعوا حسين ماضي وأعماله بأعالي أيديكم. تلمّظوا فنونه وتجاربه واختباراته. خذوه بأناقة ملائكته وشياطينه وأشكاله وألوانه، تُحقِّقوا الفوز المبين. ولنسرق فراديسه كلّها، ولنحتفل. قلتُ نسرق حصانه الأهوج، نجيء به إلى فسحة الكلمات؛ معنا العشيقان الأهوجان، واحدٌ من أمام، وواحدٌ من وراء، يلاعبان الجمر المشتعل، وفي فم العصفور ترويضُ ما لا يُرَوَّض. وفي فم الديك ما يكسر صلف اليأس بغيومٍ فادحة. الغيوم؛ كتلك التي تصنع أشكالاً لحياةٍ من هباءٍ، أو من لا شيء. كمرورٍ فوق هاوية. حيث لا وقت للنزول إلى قاع. كتفجيمٍ للّاجدوى. كتمريغٍ للزبانية. كتزخيمٍ لأحصنة التخييل. كحال الهواء عندما يكون تكثيفًا للهواء بعد تفريغ الفراغ منه. كجنحةِ لحظةٍ آن تُراوغ العدم لتفوز عليه.

هل قلتُ المرأة العابثة، وقلتُ الحصان الأهوج، والعشيقين، وفم العصفور وصياح الديك، ودائمًا فم السكرة والهاوية!؟

ما أبرعكَ تحتفل معنا، يا حسين ماضي، تصعد إلى القطار، تقفز من القطار، في اللحظة السانحة، وخارج المتعارَف عليه كثيرًا، وكسرًا للأعراف والتقاليد كثيرًا، ووفق الدستور، داخلًا بالأبّهة المرجوّة، ومن على يساركَ واليمين، ومن أمام ومن وراء، عازفو الموسيقى، وقارعو الطبول، وفي فمكَ الضحكة الرنّانة، وعلى صدرك النياشينن، وهي ملوانة الحركات والإيقاعات والمساحات الغرّاء والفسحات، وفي معيّتها النساء العابثات اللاهيات، والآنسات العذراوات بكعوبهنّ العالية، والجزادين، والحافيات، والعاريات، والمستحمّات، يشربن ويدخنّ، تحفّ بهنّ الأرائك والأراجيح، وفي نظراتهنّ ما يحجّم كلّ غلظةٍ وقبحٍ وشرٍّ وموت، وفي أيديهنّ خيوط الحرير، وما يلزم من الغندرة والكحل والعطر والبودرة والحمرة، وفي مجلسهنّ الخيول والعصافير والديوك والزيوح، والأشكال التي هي الأشكال كلّها، وتلك التي لا شكل لها، متحرّرةً من الأوصاف والتسميات.

وأنتِ يا خيول حسين ماضي، يا نساءه، يا ديوكه، يا ثيرانه، والهررة، والعصافير. مباركةٌ وملعونةٌ ومباركةٌ أنتِ أيّها الأشكال أيّتها الأساليب، أيّتها الألوان، يأخذكِ حسين بفذلكات عينيه، بشيطان يديه الإثنتين، تحت إبطه، وبسخاء لاوعيه، وبحنكة وعيه الجارح، وبمراسه، وباختباراته، وبضرباته، وبالنزوات، وبالابتكارات، ينعّمها، يطرّيها، يقوّسها، يُحنيها، ويزيّحها على الصراط المستقيم، وعلى ذاك الذي ليس، كأنّما القوانين هو يسنّها ويستبيحها، ليجول حيث وحين وكلّما، في المساحات الحرّة، في بستان العسل والليلك والزيزفون وسائر القدّيسين، وفي الغابة، ولا أحد يجرؤ أنْ يصرف انتباهه، ولا أحد يُتاح له أنْ يأخذ لقمةً أو رغيفًا من وليمته، وممّا على قماشة الطاولة، إلّا بإذنه، وبالرضا، إلى أنْ يبذل هو بنفسه، كلّ شيء، ممهورًا بالتوقيع، ويتكرّم بكلّ شيء، مبذّرًا الجمال كلّه على مَن يفهم ويشتهي الجمال.

والجمال مستبدٌّ، وهو تحت فرشاتكَ وإزميلكَ، يا حسين، مقتحمٌ مبادِرٌ مفاجئٌ شيطانيٌّ ملائكيٌّ شهوانيٌّ متبتّلٌ عاهرٌ طيّعٌ أحمقُ أهوجُ مدوزنٌ موزونٌ متوازنٌ عاصفٌ ماكرٌ ومتهيّجٌ ومموسق. ويصلّي على طريقته. ويخرج على مواقيت الصلاة قبل الأوان، وفي كلّ حين، وعندما يشاء، وعلى مزاجه، والذوق ذوقه، ولا يقع في الهفوة مهما تمادى، ومهما ذهب بعيدًا، أو بالغ، أو غرق واستغرق واستجمّ واستراح وتعمشق وتمازج وتهافت وهجم إلى الخضمّ، ونزل إلى جهنّم الجحيم، وارتقى إلى النعيم، ومهما صاهر بينهما، وكلّما صهرهما صهرًا، وجمعهما في الإناء الواحد، وحتّى الثمالة، إلى أنْ تسكر اللوحة أو المنحوتة، وتستفيق، ويصيح ديكه معلنًا الصباح، وتصهل خيوله لتعلن البرّيّة، وتموء الهررة تطالب بصحون الحليب، وتأتي إليه النساء والعصافير لتنقد القمح وتوقظ النافذة والزوفى والأغصان والبلاكين والعشّاق أمين.

وكلّما استبدّ الجمال، فأجمل منه لا؛ بيتكَ يا حسين، اللوحة والمنحوتة، وكلتاهما بتوقيعكَ يا حسين، يا ماضي. والجمال حنونٌ وشفّافٌ ومتصوّفٌ وعربيدٌ ومستبدٌّ وديكتاتورٌ وأرعنُ ولذيذٌ وممحونٌ وماجنٌ وإلى آخر المعزوفة، وآخر الليل. ففي العناصر الأربعة مقرّه، وهو معًا، وفي الآن نفسه، الهواء والماء والتراب والنار الممزوجة بالخمرة، وآنذاك هي الجامحة المُحَمحِمة اللّاهثة العطشى المتحرّقة إلى حنجور الألوان، وهنا حديقة الحدائق، بالأزرق والكحليّ والسماويّ والرماديّ والأبيض والأسود والأخضر والأصفر والأحمر والليلكيّ والفيروز والتوركواز ورقصات الدانتيل والموشّى.
فلنحتفل أيّها القرّاء.

أشكالكَ، رسوماً ومنحوتات وألواناً وكولّاجات، يا حسين ماضي، تفوز بنظرة، بعدوانيّة “النظرة القاضية”، لأنّ الحال البصريّة التي تغمر المتلقّي جرّاءها، لا تنفع فيها شروحٌ ولا تحليلات ولا معايير. أتحدّث عن الشكل المرميّ في الحجم، وعلى السطح التشكيليّ، وفي فضائه، وعن تراكماته وزيوحه اللونيّة – الهندسيّة – النفسيّة، ومراميها في العين، في العقل، وهو شكلٌ لا حدود لما ينجم عنه من تأويلاتٍ ومن غرائز ونشواتٍ فوّاحة غير قابلة للتراخي الفاتر أو للتكرار المضجر.

هذه هي الحالة، حالة الفنّ، يا حسين: قوسٌ نشّابة، عدوانيّة، مستفزّة، عنيفة، مشدودة، مقوّسة، منحنية، مسنّنة، متحفّزة، مشرقطة، نزقة، متشيطنة، مزخرفة، مبلّلة، سكرى، وتعوي من فرط صعود اللذة الى شمس الذروة، أو نزولها إلى مسرّات القعر وأسراره.

هي حالةٌ تُرقِّص العقل والقلب. تُرهِز. تخلب. تُمتِّع. تُتعتع. تُفتّح ثنايا وطيّاتٍ وشفاهًا وآفاقًا في التخييل اللونيّ والشكليّ والخطوطيّ والهندسيّ والنفسيّ، فتعطي المتلقّي ما يوازي الانتشاء الجسمانيّ، وتعطيه ما لا طاقة له على تحمّل عبء الاستمرار في التلقّي الجماليّ، فيضطرّ إلى الهرب أو التحاشي. لكأنّها حالةٌ محض جنسيّة، أو صوفيّة. في الحقيقة، لستُ أدري ما الفرق بين هذه وتلك. مثل هذه الحال، لا تحدث عند المتلقّي علنًا. هي تجري فحسب في ثنايا الالتفاتات الثقافيّة – النفسيّة – العقليّة وفي الأرواح التائهة، ممّا يمنح المرء أنْ يكون أكثر قدرةً على الوقوف في وجه الخراب الوجوديّ، وعلى الشعور الفتيّ باحتمالات الزهو اللّامحدودة.

يؤسفني أنّي لا أعرف، ولا أريد، أنْ أكون ناقدًا معياريًّا في الفن التشكيليّ، لأقول للقرّاء ما يعادل هذا الشطحَ الكلاميّ على مستوى التحليل الاستيطيقيّ. لكنّي متأكّد من أنّي لا أغامر بنفسي بسبب ما أنا فيه تحت وطأة فنون حسين. فهذا أقوله على سبيل تقريظ النزوات الفنّيّة الجامحة التي لا يُتعامَل معها وفق سلّم المعايير المتعارَف عليها.

أيّها القرّاء، خذوا أعمال حسين ماضي، واعتبِروها كنايةً عن تأجيج المستحيل. كمثل الإنصات إلى ما لا يُقال إلاّ بوجع الرفيف. كبداية الوقت. كبداية كلّ شيء. من مثل ما يُملي على الجمر أنْ يكون مستثارًا بذاته. أي أنْ يكون مستثارًا بفكرة الاشتعال. هذا ما يسبق أفعال المادّة والعقل. دائمًا ما يسبق أفعال المادّة والعقل. ثمّ يليها، وكما يجب وينبغي، كرنين الهوس في التهلكة الممتعة.

ماذا أيضاً أيّها الفنّان الكبير، ماذا أيضًا يا حسين ماضي؟ وأنتَ أيّها الأمل الأخرق الأهوج؟ ماذا أيضاً يا حصانكَ الفالت في براري الغوايات والنشوات والحرّيّة؟

أقول ما يأتي: فنّكَ، يا حسين، تيئيسٌ لليأس. ولا هوادة. كالسرعة إذ تخترق سرعة الصوت، وليس لها ما يعادلها سوى برهة الصنوج التي تدوّي في القلب. كعينين عندما تقرّران. كاللّاشيء، كاللّاشكل، عندما يعشقان أن يتجسّدا. كهجسٍ عندما لا يتنازل عن هجسه إلّا ليصير بوصلةً ومنارة. كمرآة لا ترى إلاّ خيالها، وهي مغمضة.

هذه هي المعادلات في أعمال حسين ماضي. ثمّة غيرها الكثير. وهي أشغالنا، فنّانين وشعراء. وإلاّ كيف يكون حلمٌ. وإلاّ كيف يكون خلقٌ. وكيف تكون حرّيّة؟!

يأتينا القتل، يا حسين، من كلّ صوب؛ من فوق. من تحت. من يمين. من يسار. من أمام. ومن وراء. أمّا الشعر، أمّا الفنّ، فمِن لا مكان.

مَن أقوى، يا ترى: القتل أم الشعر والفنّ؟ الديكتاتور أم النهر إذ يزعزع الأرض التي يقف فوقها القاتل، حامل السكّين؟

مَن يفوز على مَن، يا حسين؟ الفراغ أم الملء؟ الطاغية أم الفنّان؟

الحبيبة، الأمّ، الطفل، القتيل، الشاعر، الروائيّ، الرسّام، النحّات، الموسيقيّ، الناسك؛ جميع هؤلاء، وكلٌّ فرداً فرداً، يركّعون الطاغية تركيعًا معنويًّا، لأنّه لا يستطيع أنْ يأتي بأيّ فعلٍ يوازي أفعالهم.

لا بدّ أنّ الحاجة عظيمة لمَن يركّع الطاغية تركيعًا حسّيًّا. وفقط من أجل الحرّيّة.

الفجيعة تتجمّل بالحسّ. الحسّ يتجمّل بأشكاله مُكثِّرًا الليل. والليل يصنّع عالم الخيال المحدق بحرّيّة الموتى والأحياء.

الجرح لا ليندمل، وإنّما ليفتح الوجع على خياله.

الفنّ لا ليُشهِد، أحياناً، على حقيقة، وإنّما ليخلقها. كحسين ماضي هذا. وكهذا الفنّ، فنّه، الذي كلّما أمعن، ازدادت حقيقته توليدًا لذاتها.

أحيانًا، كهذا الذي يتركه لنا حسين ماضي، وأمامنا، بمثابة إرثٍ ووصيّة، يمنحنا الفنّ أنْ نستعيد خلايانا التي تكهرب مغناطيس اللذة وتُنتج عبقريّة الانتشاء، في لوحة، في منحوتة، وقصيدة.

كنزقٍ كونيّ يتوهّج كلّما ارتهز قطباه خلال ارتطامهما الضدّي.

يخيَّل إليَّ أنكَ تنتقم، يا حسين، بالمغادرة. أعرف ممَّ وممّن تنتقم. وحسنًا تفعل.

وإذ توكل هذه المهمة إلى رسومكَ ومنحوتاتكَ، فعليكَ أنْ توصيها بالمواظبة على نحت العدم، ورسمه، لتخلق أشكالاً توازي ما نحتاج إليه من انتقام.

هل يرتوي انتقامنا وانتقامكَ؟ لا تُجِب عن السؤال يا حسين. قهقِهْ كمَن يملك فنون القهقهات كلّها. مَن مثلكَ يقهقه ساخرًا في وجه المعادلات، مروِّضاً إيّاها؟!

وأنتم أيّها القرّاء، مرحبا أيّها القرّاء. أعيروني انتباهكم قليلاً. ثم تابِعوا شجون الشأن العام.

أيّتها الخيول، يا خيول حسين ماضي، نهبًا انهبي الأرض. وافعلي أكثر. أكثر. لكي لا يكون ثمّة أرضٌ لا يصل إليها جموحكِ، ولكي لا تبقى فجوةٌ لوقتٍ يتسلّل منه يأس.

هستِري حياتنا. أجِّجيها. أنِيري أحلامنا ورغباتنا وسائر شهوات الأرض. حرِّري مكبوتاتنا. وجمِّحي وجودنا، لنصير خيولكَ أو كائناتكَ الصالحة للرعشة.

وأنتَ، أيّها الرسّام النحّات، كسِّر صحون المواضعات. كسِّرها لكي لا يبقى صحنٌ واحد على طاولة الفنّ، ولا على طاولة الشأن العام. وليكن رنين الكسور صناعتكَ الفريدة. جنِّنْ أوقاتنا بأوقات ألوانكَ وأشكالكَ. مَجِّن النهار والليل؛ ما قبل وما بعد. ما من مكانٍ آخر نذهب إليه. إلى مصائرها تذهب الشعوب. والهواء يذهب إلى مصائره الممتازة. أنا، وصحبي، من أهل المصير الذي يلقاه أتباع الهواء، فافتح لنا أبواب لوحتكَ ومنحوتتكَ لنسكن رحابها، ونعمَ المصيرُ نتلقّاه من فم ذلك العصفور، عصفوركَ الذهبيّ الفم!

ففي مقدور الجرح أنْ يغرق في الجرح. وفي مقدور الليل أنْ يمعن تيئيسًا. لكن في مقدور الحصان الأهوج، حصانكَ يا حسين، أنْ يظلّ يسافر بنا، بلا هوادة؛ آخذًا معه الديوك والهررة والأشكال والألوان، على صهوته المرأة الهوجاء، وفي فم العصفور هواء الحرّيّة كلّه.

اخترنا لك